لمـيـاء.. نصفٌ معلقٌ بالسماء وآخر يتمدد في الأرض السابعة .

حين دعاني الأخ العزيز الأستاذ عبدالعزيز الخزام إلى الكتابة عن الدكتورة لمياء باعشن، والمشاركة في هذا الملف عنها بالملحق الثقافي (شرفات)، سألت نفسي: هل أكتب عنها كناقدة وأديبة لديها إنجازاتها النقدية الأدبية وبصمتها الخاصة التي لا تجدها لدى غيرها من النقاد في مشهدنا الثقافي السعودي وحتى العربي؟ أم يا ترى أكتب عن لمياء كصديقة قريبة من الروح، جمعتنا السنوات الطويلة التي بدأت تقريبا من 2003م، وأحكي ما لا يعرفه عنها الكثيرون؟! أم أكتب عنها كأكاديمية داخل أروقة جامعة الملك عبدالعزيز بجدة؛ عرفها المحيطون بها بجديتها ورصانتها ومسؤوليتها العالية تجاه طالباتها، حتى أني مرة التقيت بإحدى طالباتها ووصفتها لي: “ إنها أستاذة تغمرنا بالدهشة حين نفتح معها أبواب الأدب الإنجليزي؛ لكنها شخصية صارمة ولها هيبة تجعلنا نخشاها، ومع مرور الوقت نكتشف أنها صديقة أكثر من مجرد أستاذة لنا”. وخلصتُ إلى أنها الناقدة والأديبة والباحثة الأكاديمية والصديقة النبيلة في مجموعة متناغمة متكاملة لا تنفصل أحدها عن الأخرى أبدا، وقررتُ أن أكتب عنهن جميعا في لمياء الإنسانة الذي غلب فيها الصدق والشفافية فكانت نعم الصديقة. لمياء ابنة حارة المظلوم، إحدى حارات جدة القديمة الشهيرة داخل السور العتيق الذي تلاشى وجوده مع اتساع المدينة الحديثة جنوبا وشمالا، وفي بيت العيلة “باعشن” أحد أبرز البيوت الحجازية الممتدة جذوره لما يزيد عن 300 عاما في جدة القديمة تشربت طفولتها الحكايات، حتى أن دميتها المفضلة وهي ابنة الخامسة قد أسمتها بـ (لم يزل) وكأن الاسم يلقي بفضاءات رغبتها في تشكيل الوقت باستمرارية لا تتوقف، وهذا بحد ذاته يجعلك تكتشف ما كانت تخبئه هذه الصغيرة حينها من أفكار. لقد كانت لمياء صغيرة جدا دون الثالثة عندما قرر والدها – رحمه الله - إدخالها مدرسة النصيفية المعروفة، فوجدت نفسها على صغر قامتها تحتك بفتيات أكبر منها جسما وعمرا، وشعرت بالضغط الشديد، لكن سرعان ما فطن والدها وهو الرجل المتعلم بأنها في المكان الخطأ؛ فاختار لها مدرسة ابتدائية أخرى، هي مدرسة “بابا عباس النموذجية” التي أسسها حينها أحد رواد الإعلام السعودي الأستاذ عباس غزاوي، رحمه الله، في جدة، وكانت مُختلطة آنذاك يدرس فيها الأطفال صبية وفتيات، وخلال دراستها تفتحت مواهبها؛ وأخذت تتوطد علاقتها باللغة الإنجليزية، وبدأ احتكاكها مع الإعلام أيضا حينها؛ حيث كان “بابا عباس” يأخذ الأطفال الموهوبين وهي منهم؛ ليشاركوا في برامج الأطفال التي كان يقدمها في إذاعة جدة، وبدأت لمياء منذ وقت مبكر تضع يديها شيئا فشيئا على مفاتيح الأسئلة الصغيرة في رأسها التي كبرت معها شيئا فشيئا خلال سنوات الدراسة، ثم الابتعاث إلى أمريكا التي أمضت فيها سنوات، فتشكلت أكثر فأكثر وأعمق فأعمق . ومع لمياء حين يأخذك الكلام تشعر بأنك تورطت في محاولة فهم امرأة لا تتكرر عليك كثيرا!؟ فهي الناقدة التي يبرز أسمها في الساحة النقدية الأدبية كثيرا؛ ومشاركاتها الثقافية فرضت احترام اسمها لأنها تكاد تتفرد بمساحة تخصها دون غيرها في عملية النقد الأدبي؛ وكلما تعمقت في معرفتك بها يُخيل إليك أنها جاءت من سفرٍ طويلٍ لزمن لم يُحكَ بعد؛ وتنبثق كنهار يصدح وجهه في جغرافية تحتار كيف تجتازها؛ أهي حكاية امرأة يصعب أن تُحكى لأنها توصد الأبواب جيدا عليها فلا يتم الولوج إليها!؟ أم هي شهرزاد جدة القديمة وحكاياتها التي يعرفها الجميع ككتاب مفتوح كلما أخذت تروي حكايات الحجاز...؟! ثم، هل عرفتم يوما شخصا يحبّ الضجيج ولا يستطيع أن يعمل إلا داخله!؟ هذه هي لمياء؛ كائن ليلي ممتلئ بالكثير من الأشياء ومتعلق بتفاصيل التفاصيل، تكره الفراغ جدا، ومن الممكن أن تجدها تعمل خمسة أشياء في وقت واحد وبإتقان، فلا تستغرب إن رأيتها على مكتبها مع ثلاث أجهزة حاسوب، تتصفح مواقع الإنترنت في أحدها، والثاني تكتب عليه مقالة، والثالث ساكن في حالة استنفار، فيما تشاهد التلفاز أمامها دون أن يستقر على قناة معينة بحثا عن جديد. ويبقى ذلك الإحساس لديك وأنت تقترب منها فكرا وإنسانية بعمق مخزونها الثقافي المتراكم الجامع لثقافتين الإنجليزية والعربية، هذا هو احساسي مع السنوات الممتدة لصداقتنا الطويلة؛ حيث تقطع بك معها المسافات تأملا وروحانية ومتعة؛ خاصة حين نتلصص على “النصوص” الدينية والأدبية المولعين بتفكيك دوائرها ثم إعادة تركيبها من جديد، لأن لمياء إلا ما تخلق الدهشة بكشفها عن رؤى لم تخطر على البال؛ وكيف لا يكون ذلك!؟ والحياة في عيني لمياء تتسع باتساع السماوات. شيء أخر ربما لا يعرفه كثيرون، إنها مرحة جدا وتحب النكتة؛ يعرف ذلك صديقاتها المقربات، نحن لا نتوقف عن الضحك معا حين نجتمع يوما في سفر أو لقاء في أحد المقاهي بجدة والقريبة من البحر في كثير من الأحيان، ومع كل تلك الأشياء الصغيرة التي تملأها شغفا يوميا، فإنها إلا ما تركن للصمت الذي لا تؤمن بوجوده أصلا، لأنها تراه “حالة مستحيلة” واتذكر ما كتبته يوما عنه قائلة :”الصوت ليس كالضوء يمكن أن يغيب ليعم الظلام؛ ويصبح المكان دامسا؛ فحتى تحت عازل للصوت الخارجي؛ يظلّ الإنسان قادرا على سماع أنفاسه ودقات قلبه (...) هناك فقط هدوء؛ لكن لا صمت تام” وتتابع تأملها “ليس هناك صمت مطبق؛ هنالك كلام غير منطوق يتحاور من خلاله الإنسان مع نفسه”. هكذا تكسر لمياء جدران أفكار لطالما اعتقدها الآخرون من المُسلمات داخل المدن الزمنية، إنها مُولعة بتفكيك ما اعتقده الآخرون أنه من جثث النصوص والمعاني والاستعارات والحكايات حين تخوض دوائر النقد الأدبي؛ فتبعث فيها حياة جديدة تجعلك تعيش الدهشة بمتعة؛ كما بعثت في حكايات وأهازيج الحجاز الحياة بعد أن كادت تتلاشى، وتُدفن مع روايات العجائز في جدة القديمة، لقد مكثت سنوات طويلة تعمل على هذا المشروع، حاملة جهاز التسجيل تلاحق العجائز هنا وهناك؛ كي توثق الحكايات شفهيا بذات الطريقة التي كنّ يحكينها بالعادة؛ إنه جهد يستحق التكريم تقديرا لعملها في وقت لم يكن هناك اهتمام بذلك، وقد أخرجت المشروع في عمل توثيقي أدبي مهم على مستوى التاريخ الأدبي الشعبي، وتتمثل في سلسلة (التبات والنبات: حكايات شعبية حجازية) بالإضافة إلى إصدارها الصوتي الرائع (دوها يا دوها : أهازيج من الفلكلور الحجازي) وغيرها من الأعمال في الموروث الشعبي والتي حفظت لنا ما قالته جدات جدة القديمة، ورغم أنها حكايات قالتها النساء، إلا أن الدكتورة لمياء مع هذا تعتبر الأدب “اختيار إنساني” وغير قابل للتجنيس أو التقسيم بين أن يكون هناك ما يُسمى بأدب للرجال أو أدب للنساء؛ فهو أدب للإنسان، والأكفأ هو الأقدر في صناعة حيز مغاير في النسيج الإبداعي. وبصدق فإن الدكتورة لمياء عبر اهتمامها بالأدب الفلكلوري أو الموروث الشعبي في الحجاز؛ كانت مولعة أيضا بالزمن والولوج إلى دوائره عبر الحكايات نفسها؛ فهي ليست مجرد حكايات تُحكى للمتعة كما يظنها كثيرون؛ إنما مرايا تعكس الذاكرة الإنسانية بكل مدلولاتها الاجتماعية والفكرية والنفسية والدينية والحضارية متناقلة شفهيا عن مؤلف أو حكواتي مجهول؛ ولهذا فالدافع الأساسي من وراء تجميع لمياء وتدوينها وتوثيقها لها في أشكالها اللغوية المستعملة هو كما تقول دائما: المحافظة على هذه التحف النادرة، كشواهد عيان على حقبة تاريخية معينة تتحدث بلسانها، وتنقل أحاسيسها، وأفكارها وتقاليدها بلغتها المتميزة؛ ويرى محللو الروايات الشعبية أن بناءها اللغوي هو مفتاح لحقائق نفسية عميقة، وعلامة ثراء معرفي غزير، ومؤشر لأنماط فكرية معقدة تميزت بها أمة معينة؛ وتظهر جميعها بطريقة عفوية في البناء الروائي الداخلي. هناك أمر آخر لا يعرفه كثيرون عن المستوى الإنساني الشفيف للمياء، ويتجسد في صوتها الجميل وهي تغني بحنان، صوت يأتي من القلب مع حنجرة جعلته دافئا، لكنه غناء خاص، لأنها تختص به والدتها (أميرة اللقاني) قبل وفاتها ـ رحمها الله ـ إنك تراها تترك كل شيء بين يديها مهما كان، حين تستيقظ والدتها التي أصابها مرض (الزهايمر) وأقعدها لما يزيد عن خمسة عشر سنة؛ تدلف إليها؛ وتتحول تلك الأكاديمية الناقدة الصارمة والعنيدة مع أوراقها وآرائها إلى طفلة حنونة تلعب مع امرأة أخرى تُلقبها بأميرتها؛ تحتضنها وتمشط شعرها وتملأها بالقبل إلى أن تنام على صوت غنائها لها “سيرة الحب” الأغنية المفضلة لدى والدتها رحمها الله. لقد شكل مرض والدتها بـ(الزهايمر) لسنوات طويلة في حياة لمياء “سيرة ألم” غير قصيرة من عمرها؛ وأسهمت دائرتها في تشكيلها الإنساني؛ لقد عاشت الحزن معها كلما رأتها تتلاشى من أمامها حتى صمتت عن الكلام؛ ونسيتهم ونسيت كيف تأكل وتتحدث وكيف تُعبر عن حاجتها؛ ورغم الحزن لكن ذلك زاد لمياء صلابة لأجل والدتها؛ وكما أخبرتني مرة “كنتُ أعيش معها مرحلة جديدة في حياتي، أشعر أننا أنا وأمي تبادلنا الأدوار، أصبحت لي طفلتي الوحيدة وأصبحتُ لها أما”. إن لمياء ليست مجرد أكاديمية وناقدة وباحثة أدبية فقط، أو حتى شهرزاد حجازية مهتمة بجمع حكايات وأهازيج التراث الحجازي، بل هي أيضا شاعرة وكاتبة قصص من طراز دقيق في رصد تفاصيل الحياة اليومية، لكنها لم تُصدر كتابا حتى الآن يجمع شتات نتاجها الإبداعي، وكم أتمنى أن تفعل ذلك قريبا، ومما لا يعرفه أيضا كثيرون عن الدكتورة لمياء باعشن بأنها فنانة تشكيلية، صقلت موهبتها في الرسم الذي شغفت به مبكرا وهي طفلة؛ آخذة دورات ترفع من مستوى حسها الفني ومهارة أدواتها؛ ولديها لوحات أحدها بعنوان (صلاة ) معلقة في بيتها، حين تراها تفاجأ بسؤال يشطرك إلى نصفين، كما كِسرة الخبز حين تُغمسها في الماء؛ يبلّ ريقك نصفٌ ويشعرك أنك تلامس السماء؛ وآخر يتفتت بين أناملك فيلقي بك تائها على قارعة شارع منزوي في أطراف الأرض؛ وحيث تبدو من خلال اللوحة أجساد هلامية في حركية خشوع ما؛ تجد لوحة “صلاة” تُصر كصاحبتها على أخذك إلى تأمل جوف بدن الإنسان لا إلى حركات تؤديها أطرافه. أعتقد، أن الكتابة عن” لمياء محمد صالح باعشن “ الإنسانة النبيلة التي لا تتكرر، لا تكفيها هذه المساحة، وكم أتمنى منها أن تبدأ في مشروع كتابة سيرتها الذاتية وتجربتها الثقافية ضمن دوائر التاريخ الذي عاشته، لأنها مرحلة زمنية مهمة جدا وثرية بمخزون تجربة إنسانية تستحق أن تدون، وكيف لا وهي امرأة أرى منها نصف معلق بالسماء، وآخر يتمدد في عمق الأرض السابعة؛ حيث لا نقطة هاربة يمكن أن توصد الأبواب أمام الأسئلة والحكايات المعتقة بماء الورد وأنت تسمعها منها؛ كيف لا؟ ومعها يُصبح للحديث نكهة الشكولاتة السويسرية التي إن تذوقتها مرة؛ فلن تتوقف عن تناولها أبدا. إنها وباختصار شديد شخصية وطنية ثقافية ذات تجربة عميقة وتستحق التكريم والتقدير لجهودها الثقافية المؤثرة والباقي تأثيرها في المشهد الثقافي السعودي، وآن الأوان لذلك.