
يتكرر في المشهد الفني السعودي، خصوصاً في سياق الفن النسائي، التركيز المكثف على شخصية الفنانة عتاب، وهي بلا شك رمز فني سعودي يستحق التقدير. لكن هذا التركيز يعكس نمطاً تقليدياً قد لا يكون واعياً، يميل إلى تكرار ما يتم نشره وتداول ما هو متاح إعلامياً وبصرياً، مما قد يجعلنا نغفل عن فنانات أخريات قدمن إسهامات لا تقل أهمية، وربما تفوقها في بعض الجوانب، لكنهن لم يحظين بنفس الضوء. لا يأتي هذا الحديث من منطلق التقليل من قيمة عتاب، التي أحبها كفنانة كسرت التابوهات بشجاعة وتحدت العادات بحبها الجامح للفن، فمقاطعها المصورة في الغناء والرقص واللقاءات الإعلامية منحتنا شعوراً بوجود فني نسائي قديم قد ينكره البعض، ويحمل حيوية وعفوية قلّما نجدها، لكن هذا الإرث البصري، إلى جانب تعاطف الجمهور مع قصتها الشخصية، جعلها رمزاً يطغى على غيرها من الفنانات. في المقابل، هناك فنانات مثل ابتسام لطفي، رغم احترافيتها العالية، لم يحظين بذات المساحة الإعلامية، ويبدو أن حضور ابتسام الذي يتسم بالرسمية على المسارح، مقارنة بحيوية رقص عتاب جعل الاخيرة تحضر أكثر في أذهاننا وفي الإعلام، بينما ابتسام كفنانة من ناحية الصوت والأداء والكلمات أثقل وأكثر فنية وتنوعا، حتى أنها حظيت بأغانٍ من كبار الملحنين والكتاب العرب ، أكثر من عتاب. قد تكون عتاب هي المحور الاساسي الذي سأدور حوله وذلك كونها (الترند) بالنسبة لنا كجمهور وإعلام . هذا التكرار، وإن كان مقبولاً في حدود التقدير، يصبح مع الوقت إقصائياً، لا سيما حين يُختزل الفن النسائي في اسم واحد أو اسمين، وكأننا أمام تاريخ لا يحتوي إلا عليه! حتى الإعلام في بعض الدول حين يتناول الطرب النسائي السعودي لا يجد أمامه سوى عتاب، وهو ما يعود إلى خياراتنا نحن كجمهور، إذ نفتقر إلى (حالة) فنية طربية ناضجة تسمح بتعدد النماذج والرموز . ثمة فنانات كتبن كلمات الأغاني، لحّنّها، وعزفن على العود والكمان، وهي قدرات لم تُعرف بها عتاب ، وظهورها على المسرح خفف من النظرة الدونية المرتبطة بمصطلح (الطقاقة) ، لكنه لم يرفع الوصمة عن بقية الفنانات اللاتي لم يقفن أمام الجمهور أو يسجلن لقاءات تلفزيونية ، فهناك رابط ذهني ربما خفي بين الظهور على الشاشات وبين اسم (طقاقة) فمن لم نرها تقف أمام الجمهور وتجلس أمام ميكرفون الحوارات تأخذ داخل أذهاننا مسمى طقاقة شعبية مكانها حفلات الأعراس وتغني بقصد الحصول على المال ، أي أصبح هناك حزمة تعريفية في مجملها درجة منخفضة !! وهنا من المهم أن استخدم مصطلح (طقاقة) لتفكيكه وتصحيح معناه، إذ أن الغناء في الأعراس - رجالاً ونساء ــ ينطلق من حب الفن وطلب الرزق، وكلاهما مشروع، وكل الفنانين في العالم العربي غنوا في الأعراس ، وسواء من غنى في المسارح أو الأعراس حصل على مقابل مـادي ، فالغناء مهنة مثل غيره من المهن . إن ما حدث مع الفنانات المنسيات أعتقد أنه ليس تجاهلاً متعمداً، بل ناتج عن نسيان، أو جهل، أو انسياق خلف السائد. لهذا، فإن تسليط الضوء على أسماء أخرى لا يقلل من عتاب، بل يعيد للذاكرة توازناً طال غيابه. أسماء منسية وتجارب غنية حجيبة الدوسرية: فنانة من زمن الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، ينسب لها أغنية مدح “ كل ال سعود خيالة “ وأغنية “ امباركن عرس الاثنين “ التي اشتهرت عبر الفنانة الكويتية عائشة المرطة، وأغان كثيرة مازالت تُردد حتى اليوم ، كانت تغني على الإيقاع الدوسري، الذي ينسجم مع أجواء الأعراس ، هذه تسمى ( طقاقة) ولكن هي ذاتها التي صنعت أغان مازالت موجودة بيننا إلى اليوم ، توفيت عام 1383هـ، والمعلومات عنها شفهية ومبعثرة حتى الذكاء الاصطناعي لم يعرف أسمها! عيدة عيد : من الرائدات اللواتي تعلمن العزف على العود على يد سيدة جاوية في حي الششه في مكة المكرمة في الستينات الميلادية ، وقد تعرضت للتعنيف من أسرتها بسبب ولعها بالطرب والعود والغناء منذ طفولتها ، حتى أن عمتها تنبأت لها بأن تكون صاحبة صيت وشهرة بسبب جمال صوتها عندما كانت تسمعها وهي تغني لوحدها أثناء أدائها لأعمال المنزل ، وقالت لوالدتها ( والله يا أم محمد بنتك ذي بيكون لها شأن من حسها وبكرة تقولين مباركة قالت ) وفي ذاك الزمن لم يكونوا يقولون صوت بل حس ؛ وأرى أن كلمة حس في جانب الطرب ، له وقع رقيق على السمع والمشاعر أكثر من كلمة صوت . الفنانة عيدة لا تقرأ ولا تكتب ، وكانت تحفظ الأغاني مع أختها خديجة بطريقة تعاونية، من الراديو ، فلم يكن الوضع المادي يسمح بشراء الاسطوانات ، فعندما تأتي الأغنية كل واحدة تحفظ شطر من القصيدة، ثم تغنيان مع بعضهما ، وفي حالة عدم حفظ الأغنية كاملة وضياع بعض الأبيات تنتظران إعادتها وتبدأ رحلة الحفظ مرة أخرى ، وهذا ما فرض عليها عمل بروفات مكثفة مع كل أغنية جديدة حتى يتم حفظها تماماً علاوة على تأكيد ضبط اللحن ؛ رحلة الفنانة عيدة قصة حافلة ومليئة بالتحولات التي مر فيها الفن النسائي السعودي . صالحة حامدية : التي تسمت باسم والدتها ، حامدية التي كانت تحيي الأفراح في مكة فترة الخمسينات والستينات ، توافقت فترتها مع فترة عيدة عيد ، وحسب المعلومات التي وصلتني أنها تعلمت عزف العود على يد سيدة تدعى كرامة وكانت تغني وتعزف من الخمسينات وبيتها مكان لتّجمع فنانات مكة تلك الفترة ، عملت صالحة معلمة وواجهت مشاكل عديدة من الجهات الرسمية التعليمية بسبب غنائها ، ولا تتفاجأ حين تنشر أغنية لصالحة حامدية بوجود تعليقات كثيرة يذكرن أنها كانت معلمتهن فترة المرحلة الابتدائية ، ومن الأمور الملفتة غناء الفنان طلال مداح لأغنية خاصة بها ( لا تلومون المفارق ) . وقد يعود لصالحة وعيدة تطوير الفن النسائي فبعد أن كان الطرب يعتمد على اثنتين في ضرب الطيران ( طبلة وطار ) ، وأغان حجازية محدودة، بدت عيدة وصالحة بحفظ أغاني أكثر، ومنها العدني والعراقي ، وزدن في عدد أعضاء الفرقة وعدد الطيران ، وبتدرج حتى تّكون ما يسمى اليوم فرقة تتبع لمغنية معينة، وكانت عيدة أول من غنت الخبيتي في عالم الفن النسائي بالاستعانة بالعود ؛ وأتصور أن تطور استخدام الطبول يستحق لوحدة تسجيل وتوثيق لاسيما أننا نتكلم عن مجموعة يعملن بدافع الهواية والحب ولا يوجد لهن مرشد وموجه في هذا الجانب ، وعندما يشاهدن “طار” مستخدم في أغنية عبر التلفزيون مثل المصقاع يبدأن بتعلمه ، وتوقفت عيدة قبل ان يدخل الزير في فرقتها تقريباً في بداية التسعينات ، ولكن صالحة استمرت حتى أدخلت الاورج ، وهو التحول المهم في الفرق النسائية، لا سيما أن هناك ردود أفعال مختلفة لدخول هذه الآلة ، ومن ثم تغير أسعار الفرق الغنائية . سارة عثمان : وهي تماثل عيدة عيد بعدم القراءة والكتابة وتعلمت عزف العود ، وكانت تعزف لعتاب في الستينات الميلادية ، وهي من عزفت لعتاب في حفلة عبدالحليم حافظ في مصر ، شم النسيم في الستينات ، ولها جلسة مع الفنان سلامة العبد الله ، ولا أعرف لماذا لا يتم بثها في القنوات الإذاعية التي بدأت تتكاثر وتنشر الأغاني القديمة والفن الشعبي رغم قيمتها الفنية ؟ غندرة : عازفة عود وتميزت بالأغاني العدنية ، ويبدو أنها تعلمت على يد عيدة عيد ، وقد قرأت لها لقاء صحفياً في السبعينات الميلادية تتحدث عن ولعها بالفن ، ولها العديد من الأغاني من كلماتها وألحانها . حياة الصالح : عرّفت كأفضل عازفة عود ، وقد رافقت عتاب ورباب كعازفة في الحفلات الخاصة والأعراس ، أيضاً لها عدد من الأغاني من كلماتها وألحانها مازالت تردد الى اليوم ، وتعاونت مع شعراء وملحنين ، ولها جلسات مع فنانين ، ومع هذا لا تذاع لها أغان رغم توفر تسجيلاتها بجودة جيدة . وعند الحديث عن حياة الصالح، فلابد من الإشارة الى أنها كانت متحمسة للعودة للغناء وسجلت عدداً من اللقاءات وهي تغني ، وكانت مستعدة لتوثيق سيرة الفن النسائي الذي شهدته في الرياض والحجاز ، وعند تواصلي معها كانت لدي رغبة إشراك سارة عثمان في التصوير ، وقد رفضت سارة في البداية إلا أن حياة الصالح أقنعتها بالظهور ، رغم أن سارة حسب قولها لي ( ما مسكت العود منذ ثلاثين سنة ) وكان هذا التواصل عام ٢٠١٩ ، وللأسف أُجهض المشروع بعد شبه موافقة من جهة معنية بالفن ؛ وأتصور أن عدم إتمام كثير من المشاريع عن الفن النسائي السعودي هو امتداد وتأكيد على عدم التعاطي معه بجدية واهتمام، والنظر إليه كفائض لا قيمة له ، فن أعراس وطقاقات !! ورغم مغادرة حياة وسارة الحياة ، إلا أن فرصة التوثيق مازالت قائمة بوجود عدد كبير ممن شهدوا تلك الفترة رجالاً ونساء . نورة مبارك : عازفة عود وكمان ، تكاد تتميز بإجادة المجرور والحدري . اللافت أن عددًا كبيرًا من الفنانات السعوديات مارسن العزف والغناء منذ عقود، خصوصًا العزف على العود، وهي ظاهرة تستحق الدراسة والتوثيق. كما أن بعض الطيران، مثل “المصقاع” في الإيقاع الدوسري لم يكن يتقنه إلا سعوديات، وحسب معلوماتي عندما أرادات الفنانة الكويتية ليلى عبدالعزيز عمل شريطها ( دور فيها يالشمالي ) استعانت بسيدة سعودية من إحدى الفرق للمصقاع . اختياراتي للأسماء لم تكن وفق سياق تاريخي ، أو بحث منهجي ، أو من لهن الحق في الذكر والتدوين ، وإنما بشكل عشوائي ، فلم أذكر على سبيل المثال فنانات المنطقة الشرقية وهن يستحققن ، مثل الفنانة عائشة النخيلان التي قال عنها الفنان والباحث مطلق دخيل أنها تملك صوتاً قوياً وساحراً في السامري والخماري وتكاد تتفوق على عائشة المرطه ، ومنيرة البخيت في حائل التي تعد من أوائل من أحيين حفلات الاعراس وكانت تتقن السامري بشكل لافت ، مما دعا كثيراً من الأسر في مختلف مدن المملكة لدعوتها في أعراسهم خصيصاً للسامري ، وهي تملك تاريخاً ثرياً في شرح كيفية دخول الطرب النسائي لحائل ، ولدي بعض التسجيلات التي سجلتها معها عند لقائي بها قبل عدة سنوات ، ورغم مرضها إلا أنها كانت كريمة الاستقبال والمعلومات ( والسواليف ) ووجدتها حية بالطرب متفاعلة مع النغم رغم تعبها الجسدي . إن التسجيلات سواء الاسطوانات أو الكاسيتات الخاصة بحفلات الأعراس أو الجلسات الخاصة تعدّ وثائق فنية ثمينة، لا تقل أهمية عن التسجيلات الرسمية. وقد كانت الفنانات الشعبيات هن من حافظن على هذا الموروث عبر الغناء من الذاكرة، والتطوير في الميدان، بعيدًا عن أي معاهد موسيقية أو دعم مؤسساتي . لقد تفوقت أجيال سابقة ، رغم التحديات ، في فهم الإيقاع وضبط الزمن، وهو ما نلاحظه اليوم في قلة هذا الحس رغم وفرة الأدوات الحديثة، كما أن غياب التحسينات التقنية لم يمنع أصواتهن من الوصول بصدق وقوة وإتقان وهذا ما تكشفه هذه التسجيلات ، وعلينا أن نُقر بدورهن في نشر الأغاني المحلية والعربية ، ولا غرابة حين تسمع أغنية من فنانة في زواج أو جلسة وتعرف المغني الأصلي لها وتسمعها منه ، ولكنك تفضل أن تسمعها من ( حس ) الفنانة ، فقد أدتها بشكل أجمل وأفضل وأطرب من مغنيها الأصلي ! وقد اطلعت على أبحاث مصغرة لمؤلفين سعوديين وان كانت تعد على أصابع اليد الواحدة عن فنانات الخليج الشعبيات ووجدتها تحيط بتاريخ عدد من الفنانات ، مثل عودة المهنا وسعادة البريكي وعائشة المرطة وغيرهن وهن يستحققن بلا شك ، واقتصرت في الجانب السعودي على عتاب وابتسام لطفي وتوحة وهي الأسماء ذاتها التي تتكرر في كل عمل صحفي أو تلفزيوني رغم وجود أسماء كثيرة جداً لا تقل أهمية عن الأسماء المذكورة . وهنا لابد أن أشير لنقطة مفصلية ، لماذا ظهرت الفنانة الشعبية الكويتية على الساحة واختفت الفنانة السعودية ، بعيداً عن مسألة التصوير والحضور المسرحي والوضع الاجتماعي ، أعتقد أن دور الرجل كشاعر وملحن وفنان كان له الدور الأبرز والأهم ، فلولا الملحن الكويتي خالد الزايد الذي كان يؤمن بأهمية الصوت النسائي في عالم الفن بشكل عام لما ظهرت عائشة المرطة ، الفنانة السعودية لم تجد هذا الدعم سوى القليل جداً ، ومازال بيننا بعض الفنانين الذين ساهموا في دعم الفنانات السعوديات وهم أحد الوسائل المهمة في توثيق تلك المرحلة ، وللأسف مع كل اللقاءات التي حصلت معهم لم أسمع مرة واحدة عن تجربتهم مع الفن النسائي السعودي . وهنا أبيات قصيرة تدلل على احتفاء الشعراء بالفن الشعبي النسائي في الكويت . فهذا الشاعر الكبير محمد بن لعبون ( ١٧٩٠ -١٨٣١ ) يقول في “فريجة” رئيسة الفرقة النسائية التي تعلمت منه الموروث الغنائي السامري . (قالت فريجة وهي من يوم يطري لها الفن تشيله) وكذلك القصيدة التي قيلت في “عودة المهنا” لزيد الحرب: (عودة المهنا تشيل فنون وتواجب الصوت بالطاره) وأيضاً فهد بورسلي في “عوده المهنا” عام ١٩٦٠: (قالت الزينة وهي بالفن تشهد لها كل فنانة الطار في كفها لي حن يذكر القلب خلانه) وقول الشاعر عبدالله المزيعل في “سعادة البريكي” التي أخذت منها عودة المهنا الفن وتعتبر هي معلمتها: (يا “سعادة” شيلي الفن الجديد قايلة من خاطري قوله ثبات حسك جذبني ياسعادة من بعيد برز لك رايك بروس النايفات) وعندما توفت الفنانة عائشة المرطة رثاها الشاعر منصور الخرقاوي بقصيدة ينعى فيها نفسه والسامر والفن: (ماتت اللي تشيل الفن والسامر في بلدها وأهل الفن مفتونة) وهذا القبول والتقدير والاحترام و ( الحالة ) الفنية للفنانات الشعبيات هو سبب بقاء سيرتهن وتدوالها حتى اليوم . ختاما‘ فإن هذا المقال دعوة لإعادة قراءة الفن النسائي السعودي بعيون نقدية وعادلة ومتذوقة ، من الضروري أن نحتفي بكل فنانة أسهمت في تشكيل الذهن الغنائي والعاطفة الطربية ، سواء كانت تغني في الأعراس أو على المسارح، كتبت أو لحّنت أو عزفت. توثيق تجارب هؤلاء النساء ليس فقط إنصافًا لتاريخ الفن، بل ضرورة لفهم الجذور الثقافية والفنية.