أستاذتي التي صارت صديقتي ورفيقة روحي.

حين يُذكر اسم الدكتورة لمياء باعشن، لا يتبادر إلى ذهني فقط اسم أكاديمي متميز أو وجه بارز في المشهد الثقافي، بل تحضر أمامي شخصية إنسانية نادرة، شكّلت في حياتي مزيجًا فريدًا من الأستاذة والمُلهمة والصديقة. منذ اللحظة الأولى التي التقيت فيها بالدكتورة لمياء، شعرت أنني أمام شخصية مختلفة، تمتلك من الحضور والعمق والهدوء ما يجعلها أستاذة من نوع آخر، لا تدرّس بالمحاضرات، بل بالحياة. لم تكن الدكتورة لمياء باعشن أستاذتي من الناحية الأكاديمية في جامعة الملك عبدالعزيز فحسب، وانما شاءت الأقدار أن تجمعنا أيضا لقاءات ثقافية في دار الفنانة القديرة صفية بن زقر رحمها الله فكانت تلك بداية تعارفنا الملهم لاحقا. معها كنت أجوب خارج أروقة الدوائر الثقافية، في فضاء أرحب من الكتب والمقالات، في فضاء الإنسان والروح. كانت تشاركنا المعرفة من خلال رؤيتها للحياة، عبر القصص التي كانت ترويها، والنظرات التي كانت تسبق الكلمات، والإصغاء الذي كان يسبق أي رد. كان كل لقاء مع الدكتورة لمياء مساحة للتأمل، وكل حوار، مهما كان عابرًا، كان دعوة للتفكير بشكل أعمق. شخصيتها كانت تأسرني، بتواضعها، برزانتها، بطريقة إنصاتها، وبالصدق الذي يشع من كلماتها دون أن تتكلف أو تزهو. لقد كانت – وما زالت – مصدر إلهام حقيقي بالنسبة لي، لأن التأثير الحقيقي لا يحتاج إلى منصة، بل إلى روح صادقة، وهذا ما كانت عليه الدكتورة لمياء باعشن دومًا. هي شخصية تحمل من الحكمة بقدر ما تحمل من التواضع، ومن الحزم بقدر ما تفيض بالحنان. لم يكن التعليم عندها مجرد نقل للمعلومة أو شرحٍ لمحتوى، بل كان توسيعًا لآفاق الفكر، وتحريضًا على السؤال، وتشجيعًا دائمًا على التأمل وإعادة النظر. علمتنا كيف نفكر، لا ماذا نفكر. فتحت أمامنا أبوابًا لا نراها، لا لترينا الطريق، بل لنكتشفه بأنفسنا. هذا النوع من التعليم لا يقدّمه إلا من فهم العلم كرسالة، والتعليم كفن، والإنسان كأغلى ما يمكن الاستثمار فيه. في كل مراحل عمري التي تتابعت، كانت الدكتورة لمياء موجودة بشكل أو بآخر: في لحظات الحيرة، في مفترقات الطرق، في الأوقات التي احتجت فيها إلى صوتٍ هادئ يرشد، أو قلبٍ كبير يحتوي، أو فكرٍ نيّر يضيء لي طريقًا كنت أتلمّسه بكل وضوح.  علمتني الدكتورة لمياء الإنصات لا الاستماع، والصبر لا الانتظار، والرحمة لا الشفقة، والوضوح لا التبرير. علمتني أن أواجه الحياة بعينين مفتوحتين، وقلبٍ لا يخشى التعبير عن مشاعره، وعقلٍ لا يملّ من طرح الأسئلة. من بين الدروس العديدة التي غرستها في داخلي، كان أحدها مختلفًا واستثنائيًا: علّمتني المغامرة من أجل معرفة الحقيقة. لم تكن المعرفة عندها مجرد تراكم معلومات أو سرد للوقائع، بل كانت رحلة تتطلب الجرأة، والخروج من مناطق الراحة، والبحث المستمر بلا خوف من الإجابات المعقدة أو المتغيّرة. معها تعلمت أن الحقيقة ليست دائمًا جاهزة، بل نبحث عنها بشغف، ونقترب منها بخطى ثابتة، حتى وإن كانت الطرق إليها غير مألوفة. أما قلبها، فهو قصة أخرى. قلبها الواسع كان موطنًا لكل من عرفها، تحتوي الجميع باختلافاتهم، وتقبل الناس كما هم، دون أحكام، ودون تصنيفات. كانت تُعطي بلا انتظار، وتُساند دون ضجيج، وتفرح لفرح من حولها بصدق نادر في حديثها، تشعر أن لكل كلمة وزنًا، وأن وراء كل تحليل روح كالنور يضيء الطريق دون أن يطلب أن يرى. . لقد وجدت فيها الصديقة التي لا تغيب، حتى وإن فرّقتنا المسافات. لا تحتاج علاقتي بها إلى لقاء يومي أو اتصال دائم، لأنها علاقة جذرها الثقة، وماؤها الاحترام، وثمرتها المحبة. ثمانية وعشرون عامًا ليست مجرد رقم، بل هي سجلٌ طويل من التعلم والنمو والمشاركة الإنسانية العميقة. وإذا كنت اليوم أقف بثقة، وأفكر بعمق، وأُصغي بصدق، وأتعامل مع من حولي بقلبٍ مفتوح، فأنا مدينة بكل ذلك -بدرجة كبيرة - لتلك الانسانة التي أثبتت لي أن العلاقة بين أستاذة وطالبة يمكن أن تتحول إلى أخوة وصداقة عميقة وحضور باهر في رحلة الحياة. *كلية اللغات والترجمة/ قسم اللغة الانجليزية/ جامعة جدة