قبلة العلم الشريف!.

زرت كلية الحرم الشريف. تجوّلت في أروقتها التي يحتضنها المسجد الحرام، فشعرت بنكهة العلم ومذاقه الخاص، بل اندلقت بكل حواسّي في أزمنة العلم السالفة التي كان فيها التلقّي يتم عبر إشعاع الحلقة العلمية، وبرغم أن الطلاب لم يحضروا بأثر من عدوى طلبة المدارس، إلا أن طبيعة المسجد الحرام الحيوية لم تترك شعورا بالفراغ، إذ بدت الكلية تتكلم رغم صمتها وتتحرك رغم سكونها، فيما تضمره من بركة المكان المتشوّف للعلم، وبركة العلم المتشوّف للمكان، وهي حالة خاصة لا تحدث إلا في علم السلف الذي نبت في أحضان الحلقات العلمية في مثل هذا المكان المبارك. قام المشرف، من خلال التجوال والمنشور المطبوع، بإعطائي نبذة عن كلية الحرم، فسكنني شعور بالطمأنينة والفرح أن المسجد الحرام ما يزال يشعّ فيمن حوله، وأن هذه البلاد الطاهرة ما تزال قائمة بحق العلم والعلماء، وما تزال أمة محمد عليه الصلاة والسلام معطاءة متصلا آخرها بأوّلها، فالأرض لم تنضب من ماء زمزم وجبال مكة ما تزال تعي ماسمعته من أصداء التنزيل وأسرار التأويل. مكثت في الحرم حتى صليت الظهر، وخرجت بامتنان بالغ ليومٍ سعيدٍ حيوي شعرت فيه بقيمة أن تنجز ولو أن تزيل غصن شوك عن مدرجة الطريق، كيف وأنت تغرس ما تظنه سيبقى في ضمير المكان بذرة قد يتولاها من هو خير منك فيسقيها حتى يحيلها إلى شجرة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء! تحدثت مع المشرف عن فقه الاختلاف عَرَضا وفي ذهني أطياف الناس حول المسجد وحركة الطواف تغزل نسيجا فاتنا من الوجوه والدعوات المختلفة والتطلعات والآمال، فبدا لي أن هذا المكان الآمن هو ثمرة كل اختلاف يبدأ نسيجه من الركن إلى الركن، ويتسع حتى يعود في دورة فلكية فيما يشبه ردّ الختام على البدء، وكأن مكة هي قلب العالم، بل هي قلب المكان بكل إشراقاته وامتداداته الذي يهب قلب الإنسان شعورا بالرضا والسكينة بجوار أوّل بيتٍ وُضِعَ للناس. بعد أن فرغت من الزيارة خرجت من المسجد موغلا في حركة الناس، باتجاه مواقف السيارات، وفي داخلي امتنان عميق وشكر مديد وحمد متجدد لله صاحب الفضل والإنعام الذي اختارني لأكون جزءا من هذا المشهد وكان يمكن أن أكون خارجه لولا أنّه كتبني في هذا القدَر الجميل والمشهد الجليل الذي أتاح لي أن أعود بذاكرتي إلى سلسلة متصلة من الرجال تحاذي سلسلة جبال مكة، ممن بذلوا العلم الشريف في تناد وأصداء كما تتنادى الجبال في الأفق بأصداء الأصوات التي قد تكون هي تسبيحها، فوقع في نفسي أن تلقّي الوحي في أوّل التنزيل لم يكن خارجا عن مألوف الأشياء؛ فلو أن شيئا أولى بأن يتلقّى الوحي من هذه المنصوبات الجامدة لما كان غير الجبل ولعله معنى من معاني أن يفيض الوحي من قمة شاهقة لتتنادى به الجبال كما يتنادى به الرجال في سلسلة العلم المبارك على امتداد التاريخ. كانت إذن مكة قبلة من هذا الوجه، حيث انطلق منها الوحي تنزيلا وإليها يعود في الصلاة ترتيلا، وكما هي قبلة المصلين الذاكرين، فهي قبلة العلماء العاملين، لأنها قبلة العلم الشريف ومنطلق إشعاعه إلى الناس أجمعين.