ذاكرة الدم.. وصمت الضمير العالمي.

الدمّ يشخب في زوايا منسية، معلنًا فشلًا مزمنًا في إدراك أوجاع البشر وغياب العدالة الإنسانية. ولطالما تجنَّبتُ دور الواعظ، لكن أمام مآسيٍ تراكمت في بقاع الأرض، أرتدي عباءة الرحمة وأنادي بصوتٍ عالٍ، فواجب الأخوّة يحتم علينا أن نرفع صرخات المظلومين دون تردّد. ألا تستحق هذه الأنفاس الصامدة صوتنا الموحد؟ ففي كل حقبة تمرّ على هذا العالم، لا بد أن يترك فيها الإنسان بصمة من الألم، لا تُكْتَب بالحبر، بل بلغة الرسول الصامت للوجع: إنه الدم. ولا تُقرأ إلا في وجوه الأمهات الثكالى، وفي أنين الطفولة تحت الأنقاض، وفي خرائب المدن. هذه هي محنة الإنسانية؛ مأساة تكررت فصولها، وتغيرت أسماؤها، لكن مضمونها بقي واحدًا: سقوط الإنسان حين يَذْبَح أخاه الإنسان، في مشهدٍ تقشعر له الأبدان. في تسعينيات القرن الماضي، كانت رواندا على موعد مع جريمة إبادة جماعية تُعدّ من أبشع ما شهده التاريخ الحديث، حيث قُتِلَ ما يربو على (800) ألف إنسان في غضون مئة يوم، على يد جيرانهم وأقاربهم بدافع العِرْق وبنوازع الكراهية، وسط صمت دولي مخزٍ. ولم يكن ذلك حدثًا معزولًا، بل كان فصلًا آخر في ملحمة خذلان الضمير العالمي. إن المفارقة الكبرى أن القانون الدولي، الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية لمنع تكرار مثل هذه الكوارث، أصبح عاجزًا عن حماية الأبرياء، بل إن بعض مواده باتت تُستخدم لتبرير العنف، تحت مسميات مشروعة كـ “حق الدفاع عن النفس” أو “مكافحة الإرهاب”. وما يزيد المشهد سوداوية هو تآكل الشعور الإنساني في المجتمعات التي لم تعش الحرب بشكل مباشر. لقد أصبحت صور القصف والدمار أخبارًا عابرة، تتزاحم على وسائل التواصل، مع فيديوهات الموضة، وموائد الطعام، ورحلات السفر. وهكذا تفقد المجازر رهبتها، وتُختزل في بعض الأحيان إلى مادة ترفيهية، تقزز النفس السوية. التجارب الإنسانية تُعلّمنا أن المحن لا تنتهي بانتهاء الحدث؛ إذ تمتد آثارُها النفسية لأجيال عديدة. وأظهرت دراساتٌ نفسية على الأطفال الناجين من حرب البوسنة أنهم يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة حتى بعد أكثر من عقدين. وهذا يعني أن جراح الحروب لا تندمل، بل تحفر في الذاكرة وتتوارثها الأجيال. وبينما تمضي الإنسانية في نزيفها، تبقى بعض القصص شاهدة على ألم لا يُنسى: طفلة لا يتجاوز عمرها سبعة أعوام كانت تجلس تحت الأنقاض، تهمس لدميةٍ بيدها: “هل سنعود إلى بيتنا غدًا؟ لم يكن هناك من يجيبها، سوى حفيف الريح وهي تنوح، والركام وهو يحكي عن عالمٍ خان أطفاله، وعن وعدٍ بالرأفة لم يأتِ قط. وأمٌّ ثكلى جلست بين جثث أبنائها الثلاثة الذين قُتلوا بدم بارد، مكثت يومين وهي تحرسهم من الحيوانات المفترسة. هكذا تُختتم فصول المأساة: بقلب صغير ينبض بالحياة يُقاوم الرحيل، وأمٍّ مكلومة تتلفت يمينًا وشمالًا ولسان حالها يقول: هل من قلبٍ يرحمني؟ فلا تسمع إلا عواء الضواري التي تحوم حولها. كل هذا وغيره يحدث وسط عالم أنهكته السياسة وأعماه الصمت. لقد تحولت المجازر إلى أخبار سريعة، والدماء إلى مشاهد عابرة في خوارزميات وسائل التواصل. وهكذا يموت الإنسان ثلاث مرات: مرة بالرصاص، ومرة بالتجاهل، ومرة ثالثة بمعاونة المجرم أو تأييده. في عالم يتفاخر بتقدمه المدني ويتباهى بتفوقه التقني، تترنح القيم الأخلاقية تحت وطأة الدماء المنسكبة في كل صراع. محنة الإنسانية لم تعد استثناءً، بل واقعًا يوميًا يتكرر في أكثر من بقعة في هذا العالم. ليست المجازر اليوم نتيجة فوضى، بل نتيجة صمت دولي منظّم، وغياب إرادة حقيقية في ردع الجريمة قبل حدوثها. جرائم الحرب، والفظاعات ضد الإنسانية باتت تُرتكب بدم بارد، وتُبرر بمفاهيم قانونية فضفاضة مثل “الدفاع المشروع” أو “مكافحة الإرهاب”. والقانون الدولي الإنساني نفسه – الذي وُلد من رحم مآسي الحرب العالمية الثانية – بات عاجزًا عن كبح جماح العنف أو حتى محاسبة الجناة. فهل أصبحت الاعتذارات المتأخرة لتبرير العجز المتكرر كافية لغسل الأيادي من دم الأبرياء؟ قال الفيلسوف والتر بنيامين: “كل وثيقة حضارة هي وثيقة همجية”، وكأنما كان يتحدث عن حاضرنا المتخم بالمتناقضات. وكتب جان بول سارتر: “الجحيم هو الآخرون”، في توصيف عميق لعالم لا يرى في الآخر إلا تهديدًا لا شريكًا في المصير. وقال إيمانويل كانط “إن السلام لا يُبنى على النيات، بل على القانون والمساءلة”. أما جبران خليل جبران فكتب: “الويل لأمة تُكثر فيها المذاهب وتُقل فيها المحبة”. ولم تكن الديانات بعيدة عن هذا السياق، بل قدمت منذ فجر التاريخ أُطرًا أخلاقية واضحة تحث على حفظ النفس وتُعلي من كرامة الإنسان. ففي الإسلام يقول الله تعالى: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32]، وفي المسيحية، يقول السيد المسيح عليه السلام “طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعون” [متى 5: 9]، أما في الديانة اليهودية، فتظهر في التوراة وصايا تحذر من سفك الدم البريء “لا تقتل”. وهكذا، رغم اختلاف الديانات والفلسفات، تتوحد الرسالة: أن الإنسان أغلى من أن يُسلّم للصمت، وأن الضمير العالمي، إذا أراد الحياة، فعليه أن ينهض قبل أن يجف الدم من على الجدران، وعلى قارعة الطريق. وفي آخر المطاف، لا يبقى من المشهد سوى دموع انهمرت دون أن يراها أحد، ونداءات خافتة تتردد في أروقة الذاكرة، تسأل: أين كان البشر حين مات الإنسان؟ فتمضي الأيام، وتُطوى الصفحات، لكن الدم لا يجف في الذاكرة، والوجع لا يشيخ. وتبكي الأمهات بلا صوت، فيما يجلس العالم في دكاكين السياسة، وعلى أرصفة المؤتمرات، يوزع الخطابات ويُسَكِّن الضمائر بالمجاملات. يا لهذا الكوكب! كم مرة خذل الحياة؟ وكم طفلًا يتيتَّم؟ وكم امرأة تترمل؟ وكم وطنًا يُدْمَر؟ حتى تستفيق العدالة من سباتها المشبوه! إنه ليس مجرد صمت أبله فحسب، بل هو تواطؤ بلون رماد الأراضي المحروقة، وبرائحة التراب المخضّب بدماء الضحايا، وبطعم الشوكران. فمتى تصحو الضمائر المتخشبة لتدق ناقوس العدالة؟ وكم شهيدًا نحتاج، ليُقال للقاتل: كفى؟ وما دام هذا الصمت هو اللغة السائدة، فلن يُكتب للإنسانية أن تتطهّر من أوجاعها. وسيظل الدم يحكي، والظلم يصرخ، إلى أن يأتي يوم تنطق فيه الأرض بما كُتِم، وتُسأل الضمائر: أين كنتم؟ وهكذا، تبقى الأرض شاهدة على خيانة الإنسان لأخيه الإنسان، ويبقى الدم علامة استفهام لا تجيب عليها المؤتمرات ولا تحسمها القوانين. قال الله تعالى “وإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ” (البقرة:30)، فهل كان القلق الملائكي نبوءة لما آلت إليه حالنا؟ ربما لا نحيط بكل الحكمة الإلهية، لكننا نعلم يقينًا أن الصمت خيانة، وأن العدل ليس رفاهية، بل ضرورة لعمارة الأرض. فهل نُعيد للضمير صوته، قبل أن يفقد الإنسان أهليته للخلافة في الأرض؟ الدم منادٍ لا يكف: ألا تستحق هذه المعاناة صدى صوتنا الموحَّد؟ رحماك يا ربّ، حين تسألنا: ماذا قلنا عندما رأينا الدماء أعمق من غريف البحر؟ ومع كل ذلك، هناك دومًا بصيص نور في العتمة. فكما نهضت رواندا من جراحها، واستطاعت بناء نموذج للمصالحة الوطنية، وكما تعافت ألمانيا واليابان من آثار الحرب العالمية الثانية، فإنه يمكن للإنسانية أن تتعافى إذا ما توفرت الإرادة، وتحررت المؤسسات الدولية من سطوة المصالح.