ما همّشه الإعلام يُنصفه الأدب:

فهد بن سعيد يعود بطلا روائيًّا وسينمائيًّا بعد 22 عاماً من رحيله.

في الذكرى الثانية والعشرين لوفاة الفنان الشعبي الكبير فهد بن سعيد، الشهير بلقب «وحيد الجزيرة»، تتجدد سيرته في الذاكرة الثقافية، لا عبر الأغاني فقط، بل عبر الأدب والسينما أيضاً. فبعد أن خلدته رواية “قنطرة” للروائي أحمد السماري، بوصفه أول فنان سعودي يصبح بطلاً روائياً، جاء تتويج آخر هذا الشهر عبر السينما؛ إذ فاز السيناريو الطويل “الطرادية”، المقتبس عن الرواية، بجائزة أفضل سيناريو مقتبس من عمل سعودي ضمن مهرجان أفلام السعودية. السيناريو، الذي كتبه فهد النامي، استلهم روح الرواية وعوالم الحارة الشعبية، ورسم شخصية الفنان الشعبي وحيد بجمالية بصرية ودرامية نابضة بالحياة، مؤكداً أن الموهبة العظيمة التي أنجبتها الجزيرة العربية لا تزال قادرة على إلهام الأجيال. وكانت الساحة الثقافية قد استقبلت في العام الميلادي 2002 رواية “قنطرة” للروائي أحمد السماري، قدم فيها عالم الأغنية الشعبية الخالدة عبر شخصية إنسانية واستثنائية. وظهر فيها “وحيد الجزيرة” بوصفه أول فنان سعودي يتحول إلى بطل روائي. الرواية المشوقة التي رسمت صورة عميقة لحياة “وحيد الجزيرة” وجعلته بطلاً روائيًا غير مسبوق في الأدب السعودي، لم يكتبها السماري فقط عن الفنان الشهير، بل كان يصور فيها حكاية إنسان يواجه العالم بالفن والأمل والوحدة، مقدّمًا صورة آسرة لعالم حارته الشعبية التي سكنها بقلبه، وسكنته بوجدانها. ومن هنا يمكن الحديث عن أسبقية تاريخية: أن يكون “وحيد الجزيرة” فهد بن سعيد، وهو أحد الأعمدة الأساسية التي قام عليها الفن السعودي الحديث، أول فنان شعبي سعودي يُجسَّد كبطل روائي في رواية “قنطرة” لأحمد السماري الذي هو الآخر ربما يكون أول روائي سعودي يمنح بطولته لفنان كان مغيبًا في المتن الثقافي، لكنه حاضر في ذاكرة الناس وقلوبهم. ولاقت الرواية التي صدرت في منتصف العام الميلادي 2022، نجاحًا كبيرًا، ونفدت نسخها سريعا من غالبية فروع المكتبات ومنافذ التوزيع الأخرى، وأصبحت محور نقاشات الوسط الثقافي والأدبي، وحضرت بقوة في الأمسيات الثقافية وصفحات المثقفين على المنصات الرقمية. وفهد بن سعيد الذي اختيرت إحدى أغانيه ضمن قائمة أفضل عشر أغان سعودية عبر التاريخ الفني المحلي، توفي في الرابع من مايو عام 2003م، وبلغت ذروة نجوميته ما بين عامي 1960 و1988، لكنه كان مهمشا إعلاميا فلم تفتح له أبواب الإذاعة والتلفزيون سوى مرة واحدة، واعتزل الغناء عام 1991، كان يتمتع بشعبية لطالما عبر عن فخره بها، وأن جماهيريته تفوق جماهير ناديي النصر والهلال، وهي شعبية لا تزال تجد أصداءها اليوم في جلسات المريدين، ومقاطع الفيديو المنتشرة في وسائل التواصل الاجتماعي من عشاق جدد لم يستمعوا الى أسطوانات “نجدي فون” ولم يعرفوا محلات بيع الأشرطة الغنائية التي سيطر الفنان الراحل على جزء واسع من مبيعاتها طوال السبعينات والثمانينات الميلادية، واليوم، يواصل “وحيد الجزيرة” حضوره عبر حكايات الأدب وشاشات السينما، ليعود لا مجرد ذكرى..، بل أيقونة فنية خالدة. ------------ علَّق حنجرته على آخر أغانيه.. ورحل! عبدالعزيز العنزي ---------------- ‏أسمع فهد بن سعيد الآن.. ‏ صوته لا يزال يتردد في جهاز التسجيل القديم. ‏أعرفه من نبرة تنهداته، من رجفة الكلمات في: “خلوني أبكي يا أهلي من غثا البال”، ومن رعشة الحنجرة في: “يا عين طول اليوم والليل تبكين”. ‏يقولون: توقَّفَ فهد، وكأنهم ينقلون خبرًا مبهجًا على هامش الأخبار، ‏لكن من قال إن فهدًا كان حزينًا لأنه بنظرهم كان مُذنبا؟ ومن قال إن توقفه كانت راحة؟ ومن أفتى بأنّ التوقف أسكت نواح قلبٍ مجروح منذ الطفولة؟ ‏قرار التوقف كان قرارًا نبيلًا، لكنه لم يكن مخرجًا سينمائيًا لنهاية سعيدة، بل فصلا جديدا من الوحدة، ‏لا غناء فيه، ولا تصفيق،‏ فقط دموعٌ تُسفح في السجود، وصمتٌ يُشبه الأغاني التي لم يُكملها. ‏ومن يكتب عنه اليوم؟ يتحدثون عن توقفه، كأنه معجزة، وكأن الرجل حين كتم صوته وكسر عوده اختفى حزنه. ‏لكن هو نفسه الذي قال: “كانت حياتي قاسية مؤلمة منذ ولادتي إلى ساعتي هذه، وربما إلى آخر عمري”. ‏كلمة “وربما” هذه لا ينطق بها مرتاح، بل من كان يتمنى أن يولد مرة فقط. ‏فهد لم يكن فنانًا فقط، كان أشبه بعزاء متنقل. ‏صوته ليس لحنًا، بل أرشيف بكاء: “الله من دمعٍ عيوني تهله، أعدّ ساعات الليالي والأيام، قالوا علامك ضايق الصدر محزون، قلت هين وكل هوين صار كايد، أنا حيران ومبهذل وعايش في قلق نفسي...” كيف تُطفأ هذه العناوين؟ كيف نقول بأن من غنى هذه الكلمات سيرتاح يومًا؟ ‏غنّى للفقر والفقراء، كما قال: “لم أغن للمال، غنيت للمزاج وبس” . ‏غنّى لأنه وحيد، لأنه فقد والده صغيرًا، ثم أمه، ثم إخوته، ثم فقد صوته، وفقد الناس.. ‏تغنّى بالألم فهاجموه، وتألم بصمت فامتدحوه. ‏لم يروا الدموع التي بقيت، ولا الهم الذي لم ينقطع، ولا النوم الذي لم يعد. ‏”البارحة والعين ما ذاقت النوم” لم تكن مجرد أغنية، كانت محاكاة لقصة حياته. ‏من قال إن التوقف كان نهاية الوجع؟ ومن قرّر أن فهدًا استراح؟ وهو نفسه الذي قال: “لقد توفى والدي وأنا صغير وكان ذلك يومًا حزيناً في عام ١٣٧١هـ.، وبعد وفاته لم أعرف الراحة. بعده توفيت أمي التي كانت كل شيء لي، ثم توفى إخوتي ولم يتبق من أسرتي سوى أخت واحدة فشعرت بالغربة وأحسست بالوحدة وأن الدنيا خذلتني فواجهت الحياة فقيرًا ووحيدًا لا املك منها سوى صداقات لم تكن أوفى من آلامي واحزاني ورغم أنني تعلمت دروسًا من الدنيا إلا أنني لم أستفد منها للخروج من معاناتي” ‏ربما ينقذ التوقف الروح أحيانا، لكنه لا يشفي ستين عاما من الألم والخذلان والوجع. ‏نحن نحب الحكايات التي تنتهي بلحظة بياض، ‏لكن فهدًا بقي متألما حتى النهاية، ‏حتى حين سجد، كان صوته يئن، وحين كفّ عن الغناء، كانت جروحه تُغنّي بصوتٍ مكبوت، ‏كأن حنجرته ما زالت معلّقة في آخر أغانيه، تنتظر أن يُغفر لها، لكيلا يُنسى صداها. ‏ قالوا كثيرًا: “فهد توقف وارتاح”، لكنهم لم يسمعوه وهو يعلن بعد التوقف: “لم يفهمني أحد ولم يقف بجانبي أحد ولا إنسان سأل عني. لم أجد عطفًا أو تعاطفًا. ومنذ توفى والدي لم أجد من يأخذ بيدي وهو صادق” ‏اسألوه الان بعد فوات الوقت، ‏عن حنجرته: هل كانت ذنبًا؟ ‏عن دمعته: هل كانت صادقة؟ ‏عن صمته: هل اختار السكوت، أم اختنق به؟ ‏فهد لم يكن نبيًا ليُبعث طاهرًا من الألم، ‏ولا شيطانًا ليُدان على كل نغمة. ‏كان إنسانًا يمشى على حدّ الغناء والتقوى.