
الدكتور أحمد المخللاتي فلسطيني من غزة يحمل جنسية أيرلندية، أكمل التخصص في جراحة التجميل في دبلن ثم عاد ليستقر في غزة في يناير عام ٢٠٢٣م. وبالتالي عايش الإبادة العرقية التي تعرضت لها غزة منذ بدايتها مدة ثمانية أشهر، عمل خلالها في أكثر من مستشفى، ثم خرج ولو لم يكن يحمل جنسية أجنبية لما تمكن من الخروج. سجل هذه الشهادة الأستاذ مجدي سعيد عبر عدة لقاءات مع الطبيب. لقد استهدفت اسرائيل بالحصار والتدمير كل المنشآت الصحية وإمدادات الأدوية والمعدات الطبية في غزة، وكانت ترسل رسائل تحذيرية إلى الأطباء تهددهم حتى لا يعودوا للعمل، واستهدفت بعض الأطباء بقصف بيوتهم واعتقالهم وتعذيبهم، ورغم كل ذلك فقد كان الجهاز الصحي في غزة من المرونة بحيث قاوم كل ذلك وظل يقدم ما استطاع من الخدمة بشكل متواصل، وبقدر من التحدي، رغم فقر الإمكانيات، وانعدام وسائل التعقيم ونقص ماء الشرب. يكتب الدكتور المخللاتي: إنها مجرد قصة من القصص التي تستحق أن تُروى هنا: خلال نصف ساعة فقط يوم بداية حرب الإبادة وصل إلى قسم الطوارئ بمستشفى الشفاء أكبر مستشفيات غزة بين ٤٠٠ و٥٠٠ إصابة جراحية، يعنى ضعف إمكانات قسم الطوارئ، اهتز العمل لوهلة ثم كاد ينهار، بدأ مسؤول كل قسم في جلب مجموعة من الجرحى للتعامل معهم خارج قسم الطوارئ، بعد أن تم إفراغ مساحات من المستشفى من المرضى للتعامل مع المصابين، عاد التوازن إلى الخدمة، انتهت المستلزمات الطبية من على أرفف المستشفى، وركض البعض إلى المستودعات القريبة لحمل المتوفر مما نحتاج إليه. تركز القصف الجوي الصهيوني على مناطق الشمال طلبوا من مليون من السكان المغادرة عبر ممرات إلى الجنوب، لم يكن هناك بد من انتقال زوجة الطبيب وأولاده الثلاثة ليعيشوا معه في المكتب، لم يعد هناك مجال لخروج أي عامل في المستشفى. يبدأ عمل الفريق الطبي التاسعة صباحا، لا ينتهي العمل، الساعة الثالثة من صباح اليوم التالي يكون الإنهاك قد عطل كل القوى، يضطر الدكتور إلى إيقاف العمليات لكى يأخذ أعضاء الفريق قسطا من الراحة، حتى التاسعة صباح اليوم التالي، الطعام بدأ ينفذ، كل ثلاثة أيام يخرج الطبيب ليأتي بما يسميه النودلز يطعم به أولاده. بعد شهر كان على الفريق أن يتعامل مع ٥٠٠ مريض، لم تعد هناك قدرة على متابعتهم جميعا، حلت الإدارة المشكلة بتحويل أطباء الباطنية لكي يعملوا تحت إشراف جراحي التجميل، فيقوموا بالمرور على مرضى الحروق ومتابعتهم بعد انتهاء جراحاتهم. اضطررنا إلى فتح غرفة عمليات جديدة في قسم الحروق إضافة إلى العشرين غرفة عمليات الأخرى، لم يكن هناك طبيب تخدير أو تمريض، أتيح لنا فقط فني تخدير، وكان الطبيب يقوم بمهام التعقيم والتنظيم، ثم تطوع للعمل معنا صيدلاني، بعد أن دُمر بيته ومستودع الأدوية الذي يديره، في غزة أربعة جراحي تجميل، اثنان منهم انتقلا للعمل في جنوب غزة، والثالث د. مدحت صيدم استشهد في القصف الصهيوني خلال الشهر الأول للحرب. أجبره زملاؤه على مغادرة المستشفى للاطمئنان على عائلته فكانت القاضية. ثم أُجبر أعضاء منظمة أطباء بلا حدود على المغادرة فأصبح على الطبيب أن يستعين بالمتدربين في قسم الجراحة، كما كان على جراحي المستشفى مساعدة مستشفيات أخرى في جراحات التجميل بما يقتضيه ذلك من مخاطرة الخروج، وقدم الدكتور غسان أبو ستة من بريطانيا حيث عمل شهرا في مستشفى الشفاء، وخلال وجوده لإجراء جراحات في المستشفى المعمداني قصفت الطائرات الصهيونية المستشفى وعقد الدكتور أبو ستة مؤتمرا صحفيا حمل فيه الصهاينة مسؤولية هذه الجريمة المتعمدة، فكان ذلك سببا لمنع عودته إلى غزة رغم أنه يحمل جنسية أوروبية، وزاد من ثقل العمل استشهاد جراح التجميل أحمد المقادمة في مارس عام ٢٠٢٤. أصعب القرارات على الأطباء حين يصل مصاب بحرق يغطي ٣٠ - ٤٠٪ من الجسم، يتلقى المستشفى في الأحوال العادية حالة واحدة في الشهر، ولكنه أصبح يستقبل مائة مريض في الشهر، نسبة الشفاء مهما كانت كفاءة الخدمة لمن تصل نسبة الحرق عنده إلى أكثر من ٥٠ ٪ أقل من خمسة في المائة، القنابل الصهيونية ترسل شظايا قاتلة، فإن لم تقتل فإنها تحرق، العناية بهؤلاء المرضى تحتاج ساعات طويلة وغرف عمليات وتخدير يوميا، وفي ظل النقص الذريع للأطباء كان لا بد من الوصول بالمريض إلى المنطقة السوداء، حيث تصرف الخدمة المتاحة إلى من يمكنه الاستفادة منها، ويتوجه الجميع بالدعاء ألا تطول معاناة الميؤوس من شفائهم، في الأحوال العادية مثل هذا القرار لا يتم اتخاذه إلا بوجود لجنة متخصصة في أخلاقيات الطب، لكن في ظرف غزة لم يكن هناك إمكانية لشيء كهذا. وعادة ما يكون هناك ضحية أولى هو المريض، والضحية الثانية هو الطبيب الذي أجبرته الأحوال على التعامل مع قرار كهذا. على الطبيب أحيانا أن يتعامل مع الناجي الوحيد، وهو طفل وحيد نجا بعد أن مات كل أفراد عائلته، يؤخذ إلى المستشفى، وتقدم له الخدمة المتاحة، خاصة وأنهم قد كثروا، وأنهم يحتاجون إلى عناية نفسية وجسدية مكثفة، وساعد في رعايتهم وجود مرافقين مع أقاربهم المرضى، تستمر الرعاية حتى يحضر أحد أقارب الطفل من الأقربين أو الأبعدين. في بعض الأحيان وصل عدد الجرحى الذين كان يعالجهم قسم العظام إلى ألف، عدد العاملين عشرين، يبدأ المرور عليهم والتغيير على جراحهم في التاسعة صباحا، نصل أحيانا إلى الساعة الثانية عشر منتصف الليل ولم يتمكن الفريق من المرور على أكثر من خمسمائة ، والباقي يمر عليهم أفراد التمريض دون طبيب، ويتم في اليوم التالي المرور عليهم من قِبل الأطباء بالتبادل مع الممرضين، نقص شديد في المعقمات، وصل الأمر إلى خروج يرقات الذباب من جروح البعض، ليس في أدبيات الطب ما يرشد إلى التفاعل مع هكذا حالة، جربنا اشياء كثيرة، وأخيرا وصلنا إلى أن غسل الجرح بمحلول كلور التنظيف ثلاثة أيام متتالية يقضى على هذه اليرقات، زاد الأمرَ سوءا اعتقال أربعة من جراحي العظام، منهم الدكتور عدنان البرش الذي مات تحت التعذيب في المعتقل. إحدى العائلات استبقى القصف الأم مع طفلين بينما مات الأب وباقى الأسرة، حروق الطفل بالغة ولكنه تعافى بعد شهر بشكل يشبه المعجزة، اضطرت الأم لمغادرة المستشفى بعد قصفه، تركت طفلها في عهدة الأسر الأخرى، انتكست حالة الطفل ومات بعد يومين. لم يعد لدينا ما ننظف به جروح المرضى، أصبحنا نستخدم سكر الطعام وحده وأحيانا مع الخل، وكانت النتائج جيدة للغاية، ماذا سنفعل حين ينفد السكر؟ قُتل سبعة من الأطباء وأحد الممرضين بالاستهداف المباشر لبيوتهم، كلهم من أكثر الأطباء عطاء في الحرب، كان الاستهداف يتم بمجرد أن نعطي أحدهم ساعات إجازة لكي يتفقد عائلته، أصبحنا ننصح الجميع بعدم مغادرة المستشفى مطلقا مهما كان السبب. في التاسع من نوفمبر أي بعد شهر من بداية الحرب بدأت الطائرات الصهيونية في قصف المستشفى، أربع غارات، في المستشفى ٢٢٠٠ مريض، وخمسين ألفا من العوائل التي فقدت مأواها وألف من الطاقم الطبي، يدعي الإعلام الصهيوني أن قادة المقاومة موجودون في المستشفى، لا يمكن تصديق هذا العته وثبت ضلاله، تم استهداف قسم النساء والولادة مرتين، وقسم الطوارئ والعيادات الخارجية أيضا، في تلك الليلة استشهد أربعة عشر من أفراد الطاقم الطبي. وجُرح العشرات. بعد ذلك نسفوا مركز توليد الأكسجين بالمستشفى ومات عدد من مرضى العناية المركزة بسبب عدم وجود أكسجين للتنفس، كذلك لم يعد البترول يكفي لتوليد الكهرباء، فقررنا أن تكون الإضاءة لغرف العمليات فقط. كان واضحا أن الصهاينة يجهزون لاحتلال المستشفى، تمكنت من تهريب أسرتي إلى بيت حماي الذي يسكن في شمال غزة، رفض مغادرة منزله، ولكن الطائرات الصهيونية قصفت العمارة التي يقيم فيها، عمارة مكونة من خمسة أدوار، نجا وأفراد الأسرة بمعجزة، فقد كان عليهم أن يتسلقوا جدرانا ارتفاعها مترين، ومن بيت إلى بيت حتى تمكنوا من النجاة. طائرات الكوادكوتر بدأت تطلق النار على أي أحد يتحرك بين مباني المستشفى، كان مهندس الكهرباء ينتقل إلى مركز الصيانة لإصلاح خلل طارئ فأصيب ثم استشهد، أصبح علينا أن نبقى في المبنيين المركزيين الذين يمكن أن نتنقل بينهما عبر جسر في الطابق الثالث. الخيام التي أقامها نازحون في المنطقة حول المستشفى وصلت إليها نيران القصف، فر الناس، اضطر الفريق الطبي إلى إطفاء الحرائق باستخدام الطفايات الموجودة في المستشفى حتى لا تصل النار إلينا، لحسن الحظ ترك النازحون في الخيام كميات من الطعام وأنابيب غاز كانوا يتسللون إلى بيوتهم المهدمة للحصول عليها، ساهمت هذه في انقاذنا من المجاعة بعد أن كاد ينفد مخزون المستشفى من الطعام. حضانات الأطفال الخدج المئة لم يعد هناك من الكهرباء ما يكفي لتشغيلها، حاولنا التعويض بكل الصعوبات، لم نتمكن وأصبحنا نفقد عددا من الأطفال يوميا بسبب نقص كفاءة الحضانات، وزاد الأمر سوءا اضطرار بعض الأمهات لمغادرة المستشفى لرعاية أطفال آخرين، وضع كارثي، ماذا نفعل؟ بين ١٠-١٥ نوفمبر حاصرت الدبابات المستشفى، ولم تستطع عربات الإسعاف نقل الجثث لدفنها في الخارج، ازدحم المستشفى بمائة وعشرين جثة، امتلأت ثلاجات الموتى واستخدمنا ثلاجة كانت تنتج الثلج، ما زاد وضعناهم في الممرات، واكتشفنا أن الجيش المحاصر أصبح يسرق الجثث من الممرات. اعترف الصهاينة بأخذ ألفى جثة من غزة أعادوا منها ثمانين. تعمد الصهاينة قصف سيارات الإسعاف، مما جعلنا عاجزين عن إرسالها إلى مواقع الدمار لإحضار جرحى كان يمكن إنقاذهم من الموت. الإعلام يتحدث عن أن الجيش الصهيوني تراجع عن نيته اقتحام مستشفى الشفاء، لكنه اقتحمه، وبالكاد تواصلنا مع مراسل من قناة الجزيرة، ثم انقطعت كافة وسائل التواصل يوما ونصف، بعدها علمنا من الإعلام أن الصهاينة تركوا ممرا آمنا لمن يريد الخروج من المستشفى. ولكن كل من حاول الخروج كان يُستهدف فإما يستشهد أو يصاب. ولم تنته فصول الكارثة بعد.