فن القَطُ العسيري..

تراث يعانق الجدران.

يُعد فن القط العسيري واحدًا من أقدم الفنون الزخرفية في المملكة، حيث ارتبط بالبيوت التقليدية في منطقة عسير، وكانت النساء يمارسنه بحرفية تُعبر عن الذوق الجمالي والثقافة المحلية. امتد تأثير هذا الفن من الجدران الداخلية إلى مجالات أوسع، حتى أُدرج ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي في اليونسكو في عام 2017م، وبينما يُحتفى بعام الحرف اليدوية 2025، يعود الاهتمام بهذا الفن الذي يعدّ من الفنون الحرفية التقليدية ليُسلط الضوء على قيمته الجمالية والتاريخية، والدور الذي يلعبه في حفظ الهوية الثقافية ونقلها عبر الأجيال. جذور الفن يعود القط العسيري إلى قرونٍ مضت، حيث برعت النساء العسيريات في تزيين الجدران الداخلية لمنازلهن بأنماط هندسية ونباتية تنبض بالحياة، خاصة في غرف الضيافة (المجالس)، ولم يكن الهدف مجرد التجميل، بل كان لهذا الفن وظيفة اجتماعية وثقافية، إذ يُعبر عن ذوق العائلة ومستوى رُقيها، كما كان ـ ولا يزال ـ يمثل انعكاسًا للهوية الثقافية والاجتماعية للعائلات العسيرية، وكانت هذه الزخارف تُرسم بأدوات بدائية، مستمدة من البيئة المحلية، فالألوان كانت تُستخرج من النباتات والصخور، وتُطبق على الجدران بأيدي النساء مباشرة، مما منح كل عمل لمسة شخصية فريدة. كما كان القط العسيري جزءًا من الطقوس الاجتماعية، حيث تتعاون النساء في تنفيذه، تجتمع النساء لتزيين منزل إحداهن بعد بنائه أو تجديده، في مشهد احتفالي يرسّخ روابط المودة والتكافل، مما عزّز روح الجماعة والتعاون والتضامن والتواصل، وكان هذا التقليد متوارثًا عبر الأجيال، حيث تتعلم الفتيات الصغيرات أساليب الرسم من أمهاتهن وجداتهن، مما ضمن استمرارية هذا الفن لعقود طويلة دون أن يفقد أصالته. يمتاز القط العسيري باستخدام ألوان قوية ذات دلالات عميقة، إذ يرمز الأحمر إلى القوة والطاقة، بينما يُمثل الأزرق الصفاء والروحانية، والأصفر عن الضياء والطاقة، أما الأخضر فيُعبر عن النمو والخصوبة، وكانت هذه الألوان تُوظف في أنماط هندسية مثل المثلثات والمربعات، التي تحمل معاني مستوحاة من الطبيعة والبيئة المحيطة، فالأشكال المثلثة المتكررةيُعتقد أنها مستوحاة من الجبال الوعرة التي تحيط بالمنطقة، بينما تستوحي الدوائر والخطوط المتشابكة من تدفقات الوديان ومسارات المياه، وبعض الزخارف تتميز بتفاصيل دقيقة مستوحاة من النباتات، هذا التنوع يعكس ثراء الثقافة البصرية السعودية، ويُثبت أن الفن الشعبي ليس مجرد شكل، بل لغة تُحاكي البيئة والهوية. المرأة والقط العسيري لطالما كان القط العسيري فنًا نسائيًا بامتياز، حيث أبدعت النساء في تطويره والحفاظ عليه. كان يُعتبر علامة على مهارة المرأة وذوقها، كما كان يُورّث من جيل إلى آخر، مما جعله جزءًا أصيلًا من الثقافة المحلية، وقد اعتمدت النساء العسيريات على مواد محلية مستخرجة من الطبيعة لصنع ألوان زاهية تدوم طويلًا، حيث استخرجن الأصباغ من الفحم والنباتات والمعادن، ومزجنها مع مواد عضوية مثل الصمغ العربي لضمان التصاقها بالجدران. التنوع في أساليب القط العسيري لم يكن محصورًا فقط في الألوان والأنماط، بل امتد ليشمل تقنيات التنفيذ أيضًا، فقد كان بعض الفنانات يعتمدن على فرش بدائية مصنوعة من سعف النخيل أو أغصان الأشجار، بينما استخدمت أخريات أصابعهن مباشرة في الرسم لإضفاء طابع أكثر عفوية وعضوية على التصاميم، كما أن بعض الأسر العسيرية كانت تمتلك أساليب زخرفية خاصة بها، مما جعل كل منزل يحمل بصمته الفنية الفريدة التي تميزه عن غيره. مع التطور المعماري ودخول التصميم الحديث، لم يعد هذا الفن حكرًا على النساء، بل بدأ الفنانون والمصممون المعماريون في تبنيه وإعادة تقديمه بطرق عصرية، وأصبح القط العسيري يُستخدم في الديكور الداخلي، وتصميم الأزياء، وحتى في الهوية البصرية لبعض المشاريع، ما جعله أكثر حضورًا في المشهد الفني السعودي. إدراج عالمي في عام 2017م، أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) فن القط العسيري ضمن قائمتها التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، ليصبح أحد الرموز التراثية السعودية المعترف بها عالميًا، لم يكن هذا الإدراج مجرد تكريم لهذا الفن، بل شكّل نقطة تحول في مسيرته، حيث دفع المؤسسات الثقافية في المملكة إلى تكثيف جهودها لحفظه وتعزيزه، عبر إطلاق مبادرات متعددة، منها إدراجه في الفعاليات الثقافية، وإقامة معارض متخصصة، فضلًا عن دمجه في المناهج الدراسية والبرامج الفنية، لضمان استمراريته كجزء حي من الهوية السعودية. وقد ساهم هذا الاعتراف الدولي في تسليط الضوء على القط العسيري عالميًا، مما فتح له آفاقًا جديدة للانتشار والتفاعل مع مختلف الثقافات، وقد استضافت معارض فنية في عواصم عالمية أعمالًا مستوحاة من هذا الفن، وبدأ فنانون عالميون يستلهمون عناصره في تصاميمهم، سواء في الديكور أو الأزياء أو حتى الفن الرقمي، كما شهدت السياحة الثقافية في منطقة عسير ازدهارًا ملحوظًا، حيث أقبل الزوار من مختلف أنحاء العالم لاكتشاف هذا الفن في بيئته الأصلية، والتعرف على تفاصيله من خلال ورش العمل والجولات التراثية، وإلى جانب ذلك عزز الإدراج في قائمة اليونسكو من وعي المجتمع السعودي بأهمية هذا الفن كإرث وطني يستحق الحماية والتطوير، مما دفع العديد من الجهات الحكومية والخاصة لدعمه عبر مشاريع إحياء الفنون التقليدية، وإقامة مسابقات لتشجيع المواهب الشابة على استكشاف أساليبه وتجديده بأسلوب معاصر. إحياء التراث شهدت السنوات الأخيرة تنظيم العديد من الفعاليات والمعارض التي تحتفي بالقط العسيري، حيث يتم استعراض أدوات الرسم التقليدية، وعرض أعمال الفنانين المعاصرين المستوحاة من هذا الفن، كما تتضمن هذه الفعاليات ورش عمل تفاعلية، وتتاح خلالها الفرصة للزوار لتجربة رسم القط العسيري بأنفسهم، بإشراف فنانين متخصصين، كما تُقَام مسابقات فنية لتشجيع المصممين على استلهام هذا الفن في أعمال جديدة، مما يسهم في تحديثه وإعادة توظيفه بطرق مبتكرة. وفي إطار إحياء الفنون التقليدية وتحويلها إلى مشاريع اقتصادية مستدامة، ضمن رؤية المملكة 2030؛ تعمل العديد من الجهات على دعم الحرفيين وتوفير منصات تسويقية لمنتجات مستوحاة من هذا الفن، سواء في الديكور أو الأزياء أو المنتجات اليدوية، كما يتم توثيق القط العسيري بأساليب حديثة، عبر إنتاج أفلام وثائقية تُبرز تاريخه وتقنياته، إلى جانب الأبحاث الأكاديمية التي تُحلل أنماطه وتستكشف إمكانيات دمجه في التصميم المعماري المعاصر، هذه الجهود تضمن أن يظل هذا الفن حيًا ومتجددًا، قادرًا على التكيف مع متطلبات العصر دون أن يفقد هويته الأصلية. يُعتبر القط العسيري نموذجًا للفن التقليدي الذي استطاع الصمود والتطور دون أن يفقد أصالته، وبينما يُحتفى هذا العام بعام الحرف اليدوية 2025، تأتي هذه الفنون كجزء أساسي من الهوية الثقافية للمملكة، مما يرسّخ أهمية دعمها وحمايتها، لقد أثبت القط العسيري أنه أكثر من مجرد زخرفة، فهو لغة بصرية تعكس تاريخ المجتمع وتراثه، وحلقة وصل بين الأجيال، وجسر يربط الماضي بالحاضر في مشهد فني متجدد.