ثقافة الشتائم.

استمعت مؤخرًا إلى إحدى المساحات الحوارية على منصة “أكس”، فهالني ما سمعته من عبارات جارحة وألفاظ لا تليق بمقام الحوار، تجاوزت حدود الذوق، وخدشت الحياء الإنساني قبل الأدبي. بدا لي المشهد وكأنه ساحة صخب لا منبر نقاش، حيث تغيب الحجة وتحضر الإساءة، ويرتفع الصوت كلما ضعفت الفكرة. لقد كشفت هذه المساحات عن مستوى مؤسف لبعض المتحدثين؛ إذ يجنح بعضهم إلى استخدام لغة سوقية عند الاختلاف، وكأن لا سبيل لإثبات الرأي سوى بالتجريح. وهذا، في نظر العقلاء والمثقفين، لا يُعد حزمًا أو قوة، بل مظهرًا من مظاهر الجهل وضعف المنطق. فالرقي في الخطاب وقت الغضب، هو ما يميز صاحب العقل الرصين والحكمة الراسخة. وقد وجّهنا الله تعالى إلى سمو الكلمة ونبل الحوار، فقال في كتابه الكريم: “وجادلهم بالتي هي أحسن”. بل حتى إبليس – وهو رمز الشر – خوطب في القرآن بخطاب عقلاني واضح خالٍ من الإسفاف. فكيف نقبل، ونحن نُحسب على طبقة الوعي والثقافة، أن نهوي بألسنتنا إلى هذا المستوى ونفرغ الحوار من قيمته الفكرية والأخلاقية؟ إن طهارة اللسان رفعة، وضبط النفس أدب، والسمو في الخلاف علامة نُبل. وفي المقابل، هناك من يواجه هذا الانحدار بأخلاق رفيعة، ولسان عفّ، ونَفَس هادئ لا ينجر وراء الاستفزاز، لكنه للأسف نادر في هذه المساحات على تنوع مواضيعها. وإن كان هناك من لوم، فهو لا يقع فقط على المتجاوزين، بل على من يُمارس صمتًا مريبًا تجاه هذا الانحدار الأخلاقي، فلا يردع المسيء، ولا ينسحب من المساحة إذا استمر الإسفاف. هذا الصمت يسهم في تطبيع الأذن مع البذاءة، ويعوّدها على تقبّل خطاب منحطّ يفسد الذوق ولا يُغني العقل. إننا بحاجة ماسة إلى استعادة قيمة الحوار، وترسيخ الاحترام في اختلاف الرأي، وتطهير ساحاتنا الرقمية من الصراخ والشتائم التي لا تليق بثقافتنا ولا بقيمنا. اللهم اهدنا جميعًا إلى سواء السبيل.