مَهالكُ القراءة

لا أقول أن ضرر كثرة القراءةِ مقتصرٌ على جمود الذاكرة وضعفها جرَّاء التلقي الساكن كما أن التعب لا ينحصر فيما تتعرض له العينين من أذىً وضعف ولكني أشير إلى إلى حالاتٍ قرائية تفتك بصاحبها، نعم القراءة ذاتها تضر الإنسان كما أنها في ذات الوقت تُعد من أنبل وأشجع أعماله، القراءةُ تُخرِج الإنسانَ من فرديتهِ وشئونهِ الخاصة إلى عوالم مجتمعية شتى، وتُقحم الفرد بقضايا كُبرى تتجاوز محيطه، وهي بهذا الشكل تسلب راحة القارئ وسكينته، القراءةُ العميقة عملٌ يُبصّر الإنسان بما يزعجه ويُقلقه من نفسه ومن الآخرين. يقول الناقد المصري إحسان عباس عن أثر كثرة القراءة :» وأحس أن كثرة القراءة تُفقدني الثقة في نفسي». غربة الراعي، سيرة ذاتية أفهم من كلامه هذا أن القراءة المنفلتة تدخلك في دوامةٍ مُقلقة تجعلك متذبذبًا فكلما شعرت أنك اقتربت إلى نقطةِ ثباتٍ تُريحك وجدت من بعض الكتّاب ما يقض مضجعك ويسهرك الليالي بحثًا عن تلك الإجابات الوافية. القراءة العجلى في الكتب العميقة وتسرع الدخول في مستويات لم تقوَ لمقابلتها تُرهقك، أنت ترتطم بموجٍ هائل من تداخل المبادئ والقيم فلا أنت الذي أبصرت الحقيقة واسترحت إليها ولا أنت بالذي سَلِمَ من هذه القراءة فنجا. نعم، القراءةُ غذاء الألباب وبها تشعل الهمم والخيالات ويفتق اللسان وتختصر الطُرق وبها يبرع الإنسان ويتألق ويحتد ذكاءه ولكن على الإنسان أن يعي بأن الغلو في انعزاله وانحباسه في مكتبته لا يعود عليه إلا بالسوء .. إن أشدّ ما تخسره هو انقطاعك عن مجتمعك، فالإنسان مهما ارتقى وارتفع هو ذاك الإنسان الذي يحتاج الآخرين. يقول بول بورجه:» كل من يصفّيه التفكير والمطالعة يتعرض لعدم الامتزاج بجماعته، فإما أن يثور على بيئته التي يتألم منها، أو يحاول الدخول في غيرها، فهو كالنبتة التي تشق جذورها الإناء الذي نشأت فيه، فيجب أن تنقل منه». هل يظن أولئك أن القراءة المتسعة المنفلتة ستبني صرحًا علميًّا بالضرووة؟ الكُتب تلتهم من يأتي بلا حذر وروّية، الكتب لا تكفل لك السعادة دائمًا فكُن حذرًا من عواقبها! ستسأل نفسك في الأخير، لما أتيت هذا الطريق؟ هل ظننتها أرضًا مفروشةً بالورد؟ اعلم أن هنالك طُرقًا مليئةً بالألغام وهي التي ستجعلك خائفًا وجلًا مُصفرَّ الوجه لأن أمواج الأسئلة الكبرى تقطع أنفاسك في كل مرة. في الختام اسأل نفسك مَن أنت؟ ولما خُلقت وما الذي تريده من هذه الدنيا؟ هوّن عليك ولا يُغرنّك من بالغ وشددَّ عليك في أمر القراءة وأدرك أن الإنسان مهما بذل واجتهد فلن يعرف كل شيء والحياة قصيرة والعمر محدود فاطلب العلم بتمهُّلٍ وتدرج حتى تُصبر فتصل.