صناعةُ الغرور البحثٌ عن الجوهر في زمن المظهر.

«أنا أستهلك، إذن أنا موجود.» بهذه العبارة القاتمة، تختصر الذات المعاصرة وجودها في مشهد تراجيدي مغطّى بالبريق، لكنها من الداخل تتآكل في صمت. في عالمٍ يُقاس قيمتُنا فيه بما نحملُه من شعارات ، يُختزل الإنسان إلى صورة في المرآة ، لم تعد مجرّد أقمشة تغطي أجسادنا أو تقيه من البرد، بل صارت أيقوناتٍ للهُوية، رموزاً نرتديها كي نُخبرَ العالمَ مَن نكون لتُحاصر أروحنا وجهات المتاجر والإعلانات، وبدون أن نشعر سوف تغتال أنفسنا دون أن بأيدينا. الإنسان كمُستهلك: حين يُستبدل الجوهر بالقشرة لم يعد الاستهلاك مجرّد نشاط اقتصادي، بل صارعقيدة يومية، ومنهج حياة. لم يعد الإنسان يُعرَّف بما يفكر أو بما يؤمن، بل بما يلبس، وما يقتني، وما يظهر به أمام الآخرين. أصبح السوق هو المُرشد، والسلعة هي نصأً يتلى على الأرواح، والهوية لم تعد تنبع من الداخل، بل تُشكّل من الخارج. وأصبحت الوجوه في هذا العالم ليست مرآة للروح، بل واجهة لعلامات تجارية. والذوق لم يعد انبثاقًا فطريًا للذات، بل استجابة مبرمجة لذوق السوق. إن الإنسان اليوم لا يملك الأشياء، بل الأشياء هي التي تملكه، تحرّكه، وتُعرّفه، وتمنحه شرعية الوجود.  إننا نلبسُ «غوتشي» كي نلمعَ في أعينِ الآخرين، ونحملُ «آيفون» كي نشعرَ بأننا جزءٌ من المستقبل. لكنّ السؤالَ الذي لا نجرؤ على طرحه:   ماذا يتبقّى منّا حينَ نخلعُ هذه الشعارات؟  صناعةُ الغرور  العلاماتُ الكبرى تُتقنُ لعبةَ الإبهار. تُحوّلُ القماشَ إلى أسطورة، والعطرَ إلى حلم، والساعةَ إلى إرث. لكنّ وراءَ اللمعان، هناك آلاتٌ تدورُ في مصانعَ بعيدة، حيثُ أيديٌ مجهولةٌ تخيطُ أحلامَنا بأجورٍ زهيدة. ندفعُ مئاتِ الدولاراتِ لقبعةٍ كُتب عليها اسمُ «بالينسياغا»، بينما لا يعرفُ العاملُ الذي حاكها معنى هذه الكلمة.   العلامةُ التجاريةُ تصنعُ لنا وهمَ التفرّد، بينما نحنُ نشتري القطيعيّةَ نفسَها بلونٍ مختلف. نضحكُ على من يرتدي تقليدَ «نايكي» الرخيص، ثمّ ننفقُ راتبَ شهرٍ على حذاءٍ من النسخة «الأصلية»، التي قد تكونُ خرجتْ من المصنعِ نفسِه.   الاستهلاك كخدعة وجودية في هذا النظام، تتحول القيم إلى رموز تجارية، ويتحول الجسد إلى سلعة، ويصبح الجمال مسألة معيارية محددة بقوالب الموضة، لا بإشراقة الروح. فيتم تفريغ الإنسان من جوهره، وتجريده من خصوصيته، ليصبح مجرد «مستهلك نموذجي» في شبكة الإنتاج والترويج. ما يؤكده الفيلسوف الفرنسي جان بودريار أن الاستهلاك لم يعد وسيلة لإشباع الحاجات، بل أصبح غاية قائمة بذاتها. لقد تسلّلت الدعاية إلى اللاوعي الجمعي، لتُشعل الشهوة تجاه ما لا نحتاج، وتُقنعنا أن السعادة في الوفرة، والهوية في التملك، والحرية في حرية الشراء، لا في حرية الوعي. الهروبُ من الفراغ   لماذا نلتصقُ بهذه العلامات؟ لأنّها تمنحنا إحساساً زائفاً بالامتلاء. في زمنِ العزلةِ الرقمية، حيثُ صرنا أرقاماً في خوادمَ إلكترونية، نبحثُ عن شيءٍ يجعلُ وجودَنا مرئياً. الماركةُ هي الوشمُ الذي نرسمه على جسدِنا كي يقول: أنا هنا، أنا مهمّ، أنا موجود.   لكنّ الحقيقةَ المُرة هي أننا لا نُبلى لأنّنا نلبسُ «فيندي»، بل لأنّنا نلبسُ جلودَنا. حينَ تزولُ الألوانُ الزاهية، يبقى الجسدُ عارياً، وحيداً، كما كان.   من العُزلة التأملية إلى عُزلة التسوق ذات زمن كان التأملُ طقسًا مقدسًا يُستدعى لاكتشاف الذات والإنسان فيها مرتبط بروحه. أما في الثقافة الاستهلاكية الزائفة، فالعزلة ليست من أجل الحكمة، بل من أجل الشراء. الفرد لا يهرب من صخبه الداخلي إلى السكون، بل إلى صالات العرض، إلى «المول» المضاء كالهيكل، حيث السلع تتحدث والوجوه تتشابه، والحاجات تُخلَق لا لتُلبى، بل لتُبدَّل. هذا الوجود الجديد جعل الحياة اليومية محصورة في سلوكٍ استهلاكيّ، نُمارسه لا لأننا بحاجة، بل لأننا مدرَّبون على الحاجة. هكذا يُنتَج «الفرد القطيع»، الذي لا يسأل، لا يتأمل، بل يشتري. يشتري ليُشبه غيره، لا ليشبه ذاته. من نور الجوهر إلى ظلال الأشياء في ظل هذا التمدد الهائل لعالم الأشياء، تُخمد جذوة التأمل، ويبهت نور الروح. لقد فقد الإنسان تواصله مع ذاته الداخلية، وراح يستعيض عنها بصور براقة لا تحمل في جوفها إلا وهم الاكتمال. وما الاستهلاك إلا محاولة فاشلة لملء فراغ روحيّ لا تُشبعه السلع، بل تزيده اتساعًا. كل إعلان يُقنعنا بأننا «ناقصون» حتى نشتري، وكل صورة مثالية تُبثّ عبر وسائل الإعلام تُعمّق فينا شعور النقص، فنسعى جاهدين لامتلاك قناع جديد، ونحن لا ندرك أن ما نبحث عنه ليس في الخارج، بل في الداخل. نحو التحرر والعودة إلى الإنسان إن طريق التحرر لا يبدأ من رفض السوق، بل من رفض الزيف. أن نخلع عنا أقنعة التملك، ونعود إلى أنفسنا بصمت، بلا ضجيج، بلا حاجة إلى إثبات. أن نُصغي إلى ما تبقّى من أصواتنا الداخلية، إلى الحنين للبساطة، إلى الشوق لحياة لا تُقاس بثمن، بل بمعنى. أن نكون أقلّ بهرجة، وأكثر صدقًا. أن نتوقّف عن التظاهر، ونسمح للنور بالخروج من داخلنا فلن يخلّد اسمكَ ثوبٌ فاخرٌ ولا علامةٌ مرصّعةٌ بالذهب، بل النورُ الذي يشعّ من باطنك حين تنسلخُ عن أقنعة الزيف، حين تصمت الأنا، أن نحب دون قناع، أن نعيش دون استعارة، هكذا تصبحُ الحياةُ أخفَّ حينَ نتعلمُ أن نخلعَ الأقنعةَ التي تُعلّقها علينا المتاجرُ الكبرى. لأنّ الجمالَ الحقيقيَّ ليس في الشعارِ الذي نحمله، بل في الاروحِ التي تحملُنا. واالسؤال الذي يجب أن نطرحة على أنفسنا.هل نستهلك العالم، أم أصبح العالم يستهلكنا؟ وإن لم نُجب عن هذا السؤال بصدق، سنظلّ نركض خلف سرابٍ… يشبه كل شيء، إلا السعادة. الهوامش:  1/ مي عباس: غزو ثقافة الاستهلاك والعبث بالأسرة، مجلة البيان، العدد: 369، جـمـادى الأولـى 1439 هـ / يناير - فبراير 2018 م. 2/ حميد زناز: متاهة الاستهلاك، صحيفة العرب الدولية، لندن، العدد: 11386، الأحد 23/06/2019.   3/ عبد الهادي صالحة: حُمّى الاستهلاك! بين العادات الطبقية وثمرة الأخلاق الفردية، مجلة الرافد الكترونية، 19-ديسمبر- 2021. 4/ حسام الدين فياض : نظرية نقد المجتمع الاستهلاكي عند جان بودريار، الثقافة الجديدة ، 2 نوفمبر 2022.