هل تكتب الآلة نيابة عن الكاتب؟

أدباء يتحدثون عن الذكاء الاصطناعي، وتجاربهم وهوية الإبداع.

بين الإلهام والتزييف، وبين الموهبة والآلة، يتأرجح الجدل الثقافي هذه الأيام حول الذكاء الاصطناعي ودخوله الميدان الأدبي. فهل يُعدّ هذا التطور أفقًا جديدًا للإبداع؟ أم خطرًا يهدد جوهره؟ في زمنٍ باتت فيه التقنية قادرة على توليد نصوص تُشبه الشعر، وتُحاكي السرد، بل وتخدع أنصاف المتذوقين، تُطرح أسئلة كبرى عن هوية الكاتب، ومكانة الخيال الإنساني، وحدود ما يمكن أن تُنتجه الآلة. هذا الاستطلاع، الذي أجرته مجلة اليمامة، لا يبحث عن إجابة قاطعة، بل ينقل صوت التجربة، وتأمل الكتّاب والمبدعين الذين وقفوا أمام هذه الظاهرة الجديدة: بعضهم حذّر من “غثاء رقمي” قادم، كما فعل الدكتور محمد بن راضي الشريف، وبعضهم دعا إلى الاستخدام الواعي، كما فعلت الشاعرة هند النزاري، وآخرون رأوا في الذكاء الاصطناعي فرصة لتجديد الأدوات لا لاستبدالها، كما عبّر الدكتور منصّر الحارثي، والشاعر مروان المزيني، والناقد صالح الحسيني. هذه الأصوات، وإن اختلفت في زوايا النظر، إلا أنها اتفقت ضمنًا على شيء جوهري: الكتابة الحقيقية لا تُولد من آلة، بل من إنسان يعرف كيف يحوّل تجربته إلى نص، وألمه إلى معنى، ووعيه إلى إبداع. الدكتور محمد بن راضي الشريف: الغثاء الرقمي قادم... والآلة لا تدرك اللغة الشعرية يقول الدكتور محمد بن راضي الشريف عضو هيئة التدريس بجامعة الحدود الشمالية سابقًا في حديثه لـ”اليمامة” إن الذكاء الاصطناعي ليس مبدعًا على الساحة، فقد اخترع الإنسان بذكائه آلات تفوقت على أداء البشر العادي، فالمحرّك، ووسائل المواصلات، والأسلحة، والكمبيوتر، جميعها وليدة عبقرية الإنسان. وهي كما قال الصاحب بن عباد: “بضاعتنا ردّت إلينا”، لكن هذه البضاعة تتفوّق علينا مرّات ومرّات. أما في عالم الأدب، فسيكون للذكاء الاصطناعي أثر على الساحة الأدبية المتخمة أصلًا بالرداءة والفن الهابط – على حد وصفه –، إذ سيلفّق ما يوهم المتلقي بأدبيته، مما يزيد الغثاء. ومع ذلك، قد يكون الذكاء الاصطناعي ملهمًا للأديب الحقيقي. ويضيف الدكتور محمد: يصعب الجزم بنجاعة الذكاء الاصطناعي في كتابة الأدب ونقده، لكنه قد يكشف عوار من يعتمدون عليه دون موهبة، كما يفضح قصور بعض المتلقين عن تمييز الخطاب المصنوع. كما أن الآلة تعجز عن إدراك اللغة الشعرية المتجاوزة، ما يجعلها تنزلق إلى التحذلق أو الضبابية. الشاعرة هند النزاري: لا تجعل الذكاء يكتب عنك... فتتحول إلى نسخة مكررة تقول الشاعرة هند النزاري: لا أرى في الذكاء الاصطناعي فرصةً لتطوير الإبداع الأدبي بقدر ما أراه معينًا على استكمال أدواته، فهو يوسّع آفاق المبدعين ويختصر عليهم مجالات البحث، إن استخدموه لهذا الغرض. لكن الحقيقة الصادمة أنه يُنتج نصوصًا أدبية بالفعل؛ مفصلة حسب الطلب، ويمكن بسهولة أن تنطلي على أنصاف المتذوقين، وتوهمهم بجودتها وتكامل عناصرها الفنية. ولكي يحافظ الكاتب على صوته الإبداعي، ينبغي أن يستخدم الذكاء الاصطناعي باعتباره متصفحًا عالي الأداء لا أكثر. أما أن يترك له مهمة الكتابة ثم يقوم هو فقط بتنقيح ما كتبه ويضع توقيعه عليه، فليُدرك تمامًا أنه، وخلال وقت قصير، سيغدو نسخة مكررة من نسخ كثيرة تنتجها الآلة يوميًا وتطرحها في الساحة. أما عن مستقبل العلاقة بين الكاتب والآلة، فالحقيقة - كما تراها النزاري - أن الذكاء الاصطناعي يتطور بسرعة مذهلة، أسرع مما نتصور. ربما نستيقظ غدًا لنجد ما كنا نتوقع حدوثه بعد عشرين عامًا قد أصبح واقعًا قائمًا! وقد جربت أن أطلب منه نظم قصيدة على بحرٍ معين وفي موضوع محدد، فأنجزها خلال ثوانٍ! صحيح أنها كانت سطحية، مرتبكة المعاني، وواهية الدلالات؛ لكنها، من الناحية الشكلية، كانت قصيدة! ومن يدري، إلى أي سماء إبداع قد يصل، خاصةً وهو يطوّر نفسه باستمرار، لحظةً بعد لحظة. الدكتور منصّر الحارثي عضو هيئة التدريس بجامعة طيبة: الإبداع لا يُنسَخ... لكن الذكاء يلهم يرى الدكتور منصّر الحارثي أن الذكاء الاصطناعي يمثل فرصة ثمينة لتطوير الإبداع وتحديًا في آن، إذ يفتح آفاقًا لاستكشاف اللغة واستلهام أنماط جديدة. لكن تبقى النصوص المنتَجة به دون المستوى الفني الحقيقي، إذ تفتقر إلى العمق والتجربة الإنسانية التي تميز الكاتب. ويضيف: يمكن للكاتب الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتطوير أفكاره، لا لصياغة النصوص. وقد جربت استخدامه في مجالات التعليم والتدريب لتوليد أفكار أولية، لكني لم أخض تجربة استخدامه في المجال الأدبي. الشاعر مروان المزيني: لا غنى عن الكاتب الحقيقي... والآلة مكملة لا بديل يحاول الشاعر مروان المزيني أن يمسك بالعصا من المنتصف، حيث يؤكد أن لكل ابتكار إيجابياته وسلبياته، ويعتبر استخدام الذكاء الاصطناعي في الأدب أمرًا مهمًا ومطلوبًا. ويرى أن النصوص المنتَجة به إلى حد ما تُعد مكملات لا تُغني عن اللقاءات المباشرة أو الكتّاب الحقيقيين. وحول صوت الكاتب، يقول: لا يستوي التقليد مع الأصل، لكنه يرى أن الذكاء الاصطناعي قد يخفف الضغط على الكاتب ويوفر وقته وجهده. أما عن العلاقة المستقبلية مع الآلة، فيؤمن بأنها ستستمر وتتطور، طالما أنها تسهم في الوصول للقارئ بجودة أفضل. وعن تجربته كشاعر، قال: لم أستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي بعد، لكني لا أمانع، وسأتعلم من أخطاء الآخرين. الأديب والناقد صالح الحسيني: الأدب يُعاش ولا يُولّد... والخيال لا يُستبدل من جهته، يطرح الناقد والأديب صالح الحسيني رؤيته من زاويتين: الأولى ترى في الذكاء الاصطناعي تهديدًا، لأن الإبداع ينبع من الألم والوعي والذاكرة، وهي أمور لا يملكها الذكاء الاصطناعي؛ والثانية تنظر إليه كفرصة، لأنه قد يساعد الكاتب في تحرير النصوص واستكشاف أساليب جديدة. ويرى أن جودة النصوص الناتجة عنه جيدة من الناحية التقنية وتختلف باختلاف الغرض والسياق، لكن نصوصه، وإن كانت سليمة نحويًا، تفتقر إلى العمق الإنساني. فالأدب الحقيقي لا يُكتب فقط، بل يُعاش. ومع ذلك، يمكن للكاتب أن يحافظ على صوته، بل ويعززه باستخدام واعٍ. ويشبّه الحسيني العلاقة المستقبلية بين الكاتب والآلة بعلاقة الرسام بأدواته: لن يحل الذكاء محل الخيال البشري والتجربة الإنسانية، بل سيصبح امتدادًا له. ويتوقع نشوء أنماط أدبية هجينة نتيجة هذا التفاعل. وعن تجربته الشخصية، وصف صالح استخدام الذكاء الاصطناعي بأنه تجربة مريحة وملهمة، خاصة حينما يواجه الكاتب صعوبة في بدء موضوع الكتابة، فهو يساعد في توليد الأفكار ومراجعة الأسلوب وصياغة الجمل. ويختم الحسيني حديثه: “يمكن تشبيه الذكاء الاصطناعي بالمساعد الذكي، لا أكثر.” الذكاء الإصطناعي يجيب: الآلة لا تملك قلباً مجروحاً أخيرًا طرحنا السؤال على “شات جي بي تي” عطفًا على آراء الأدباء بعد كل ذلك الحديث فقال: ما بين من يرى في الذكاء الاصطناعي تهديدًا لجوهر الكتابة، ومن ينظر إليه كأداة إلهام وتطوير، يتكشف لنا وجه جديد من العلاقة بين الإنسان والتقنية، علاقة تتسم بالتوجس والانبهار في آن واحد. لقد بيّنت آراء الأدباء المشاركين أن المسألة لا تتعلق فقط بإتقان اللغة أو توليد نصوص صحيحة نحويًا، بل تتجاوز ذلك إلى سؤال أعمق: من أين ينبع الإبداع؟ ومن يملك حق القول؟ فالآلة – مهما تطورت – لا تملك قلبًا مجروحًا، ولا ذاكرة غائرة، ولا طفولة تشبه القصيدة. قد تحاكي، تقلّد، وتنتج، لكنها لا تبتكر من عصب التجربة الحقيقية. الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون معينًا في جمع المادة، وتوليد الفكرة، وصقل الأسلوب، لكنه لا يستطيع أن يسكن النص، أو يمنحه حرارة المعنى. وفي ظل هذا التحول الرقمي المتسارع، تبرز مسؤولية الكاتب في الحفاظ على صوته، وتطوير أدواته، دون أن يسمح للتقنية أن تحلّ محله أو تصنع إبداعه. فالكتابة ليست مهارة ميكانيكية، بل فعل وجودي، يعكس الإنسان في ضعفه وقوّته، في قلقه وحلمه. وما دامت الكتابة كذلك، فسيبقى الإنسان، لا الآلة، هو من يكتب النهاية الأولى.