الرئيس ترامب ... وأبو شَــنَبْ !؟

لا يختلف اثنان على أنَّ الرئيس دونالد ترامب شخص وشخصية فريدة في تاريخ السياسة الغربية المُعَاصِرَة، فوصوله إلى البيت الأبيض للمرَّة الأولى كان مُفاجأة للغالبية العُظمى مِن المُراقبين والمُحللين السياسيين. فَلَم يَكُن يؤمِن بإمكانية وصوله إلى دفة الحُكم في أقوى دولة في العالم إلا ترامب نفسه. وحينما خَسِرَ انتخابات 2020م لإعادة انتخابه أمام جو بايدن، لم يعترف بالخسارة، ورَفَضَ تهنئة الرئيس الفائز جو بايدن، بل لم يَحضُر حفل تنصيبه. وفي ظِلَّ عشرات القضايا التي رُفِعَت على الرئيس ترامب في المحاكم الأمريكية بعد خروجه من البيت الأبيض بعد هزيمته من جو بايدن في السباق الثاني 2020م على دخول البيت الأبيض، حَكَمَ عليه غالبية المُحلّلين والكُتَّاب السياسيين بانتهاء تاريخه السياسي. حينها أشار عليه أصدقاؤه بتبني إنشاء مكتبة بإسمه، فقال: إنشاء المكتبات للرؤساء المهزومين، وأنا لم أُهزَم في الانتخابات. وعندما رَشَّحَ الرئيس ترامب نفسَهُ مرةً ثالثة لانتخابات الرئاسة الأمريكية 2024م ضد الرئيس بايدن، الذي انسحب من المنافسة لصالح نائبته كامالا هاريس، أجمَع الكثيرون على استحالة فوزه. ولكنه فاز. بل فاز فوزاً كاسحاً، بحيث أخذ الحزب الجمهوري غالبية مجلسي الشيوخ والنواب، وأثبَتَ للعَالم أنَّهم أخطأوا في حُكمهِم وأحكَامِهِم عليه. يقول الكُتَّاب والمحللون السياسيون بعد فوزه بالرئاسة المرة الثانية، أنَّه لم يُؤمِن بإمكانية فوز ترامب بانتخابات الرئاسة للمرة الثانية سوى ترامب نفسه. والدليل على ثقته المُفرِطَة بالفوز اختياره شخصاً مغموراً جداً نائباً له بعد فوزه بترشيح الحزب الجمهوري، بخلاف ما كان يَتِمّ في غالبية الانتخابات الأمريكية بقيام الفائز بترشيح الحزب اختيار الشخص الثاني في انتخابات مُرَشحي الحزب (في حالة ترامب كانت السيدة نيكي هيلي). وليست هذه فقط العلامة الفارقة في شخص وشخصية الرئيس ترامب. بل طريقته الفريدة في إلقاء خطاباته وإجاباته في المقابلات الإعلامية. فهو نادراً جداً ما يقرأ مِن ورقة أمامه، بل يتحدَّث تلقائياً. وليت الموضوع يتوقف فقط عند إرتجاله كلماته، بل يتعداه إلى شراسته في خطاباته، حيث لا يتردّد مُطلقاً في مُهاجمة خصومه بأقذَع الألفاظ البعيدة جداً عن اللباقة الدبلوماسية. فأولاً وأخيراً، ترامب لم يشغَل أي منصِب حكومي، سياسياً كان أم بيروقراطياً. بل يُقال أنَّه لم يعمَل يوماً ما لدى أي شخص، حيث كان دائماً رئيس نَفسِه. ولايزال كذلك. هذه المُقَدَّمَة الطويلة عن الرئيس دونالد ترامب مُستَحَقَّة لفخامته، وضرورية لموضوع هذه الأكاديمية، لسَـبَبٍ سَـيتَضِح لاحقاً. الحكومة العميقة قال ترامب أثناء حملته الانتخابية 2024م أنَّه سيقضي على “الحكومة العميقة”، وهو ما يُعرَف سياسياً بحُكم أو إدارة المؤسسات INSTITUTIONS. ولا أدلَّ على صِدق مقولته ووعده هذا سوى ما جاء في كلمته الطويلة في المنتدى السعودي الأمريكي للاستثمار صباح الثلاثاء 14 ذو القعدة 1446هـ في الرياض. كالعادة، كانت كلمته ارتجاليه وعفويّة، لم تخلُ مِن هجومه الطبيعي المُتَكَرِّر على إخفاقات إدارة الرئيس السابق بايدن. ولكنه اختلَفَ تماماً عن غيره مِن السَّاسة الغربيين عندما قال في كلمته الرائعة تلك: “من المهم جداً أن يُدرك العالم أنَّ هذا التحول العظيم (في دول الخليج العربي) لم يأتِ من التدخلات الغربية Western interventionalists، ولا مِن أولئك الذين يطيرون في طائرات فاخرة ليُلقوا عليكم محاضرات عن كيفية العيش وكيفية إدارة شؤونكم. إنَّ المُعجِزات اللامعة في الرياض وأبوظبي لم يصنعها من يُسموَن ببُناة الأُمَم nation-builders، ولا المحافظون الجدد neocon، ولا المنظمات غير الربحية الليبرالية liberal nonprofits التي أنفقت تريليونات وتريليونات مِن الدولارات وفَشَلَت في تطوير كابول وبغداد والعديد من المدن الأخرى. إنَّ ولادة شرق أوسط حديث جاءت على يد شعوب المنطقة أنفسهم، الناس الذين هم هنا، الذين عاشوا هنا طوال حياتهم، فَطَوَّروا بُلدانهم ذات السيادة، وسعوا وراء رؤاهم الفريدة، ورسموا مصائرهم بطريقتهم الخاصة. إنه لأمر مذهل حقاً ما أنجزتموه. في النهاية، دَمَّر مَن يُسَـموَن ببُناة الأُمم عدداً من الدول أكثر مما بَنوه، وكانوا يَتَدَخَّلون في مُجتمعات مُعَقَّدَة لم يفهموها هُم أنفسهم. قالوا لكم كيف تفعلونها، لكنهم لم يكونوا يعرفون كيف يفعلونها بأنفسهم. السلام والازدهار والتقَدُّم لم تأتِ في نهاية المطاف مِن رفض جذري لتراثكم، بل مِن احتضان تقاليدكم الوطنية واعتناق ذلك الإرث نَفسه الذي تُحبونه كثيراً، وهو أمر لا يُمكِن لأحد غيركم القيام به. لقد حققتم معجزة حديثة على الطريقة العربية. وهذه طريقة عظيمة”. بالفعل، هذا الكلام لم يَتَفَوَّه بهِ أيٍ مِنْ السياسيين الغربيين الذين جالوا ويجولون بُلداننا العربية التي ظَهَرت للوجود بعد اتفاقية سايكس ــ بيكو بعد الحرب العالمية الأولى، حيث كان جميعهم بلا استثناء يتحدَّثون إلينا من بُرجٍ عاجيّ، يُلقون علينا النصائح كيف نُدير بُلداننا ومجتمعاتنا وتعليمنا ومعيشتنا ومُقتصداتنا. بالفعل، إنَّ كلام الرئيس ترامب ثورة على “الحكومة الغربية العميقة” التي تَعَهَّدَ بالقضاء عليها. ونتنمى له التوفيق في القضاء على “الحكومة العميقة” التي أنهَكَت الدول النامية وحَرَمَتها مِن التقدَّم والتَطَوُّر. ترامب وسوريا وتأكيداً لتفَرُّد ترامب في طريقة إدارته السياسة الأمريكية، مُقَارَنَةً بمَن سَبَقَوه، جاء قراره المُفاجئ أثناء إلقاء خطابه في منتدى الاستثمار السعودي الأمريكي، برفع العقوبات الأمريكية فوراً عن سوريا، وذلك تلبيَّةً لوساطة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، الذي أثنى عليه الرئيس ترامب مراتٍ عديدة في خطابة السابق. فقد كان الثناء الجميل والمُتَكَرِّر مُستحَقَّاً لسموه الكريم الذي يشهَد لهُ واقع المملكة والعالم العربي أنَّه ــ هوَ الآخر ــ زعيم عربي فريد في زمانه، استطاع خلال سنوات قليلة صناعة مُعجِزَة سعودية تَمَثَّلَت في شبه إكتمال رؤيته، رؤية 2030، ومُعجِزَة إقليمية ودولية جَعَلَت العاصمة الرياض مَحَطّ أنظار دوَل العالم وكُبرَيات الشركات العالمية. لقد جاء قرار الرئيس ترامب المُفاجئ “للحكومة العميقة” برَفع العقوبات فوراً عن سوريا في نهاية خطابة كالتالي: “سأُصدِر أمراً بوقف العقوبات المفروضة على سوريا من أجل منحهم فرصة لتحقيق العظمة. كانت العقوبات على سوريا قاسية ومُدمّرة، وقد أدّت دوراً مُهِمَّاً في ذلك الوقت، ولكن الآن حان وقتهم للتألّق. نحن نرفعها كلها، وأعتقد أنهم سيحققون شيئاً رائعاً، بناءً على ما أسمعه عن الشعب والروح وكل الأمور الأخرى. لذا أقول: حظاً سعيداً، سوريا. أرونا شيئاً مميزاً جداً، كما فعلوا بصراحة في السعودية، إنهم أناس طيبون جداً”. إنَّ قرار ترامب رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا فوراً، هوَ الآخر “ثورة” كبيرة جداً على “الحكومة العميقة”، التي لم تَكُن سَـتَرفَع العقوبات إلا بعد اشتراطات لا حَصرَ لها وسنوات مِن المفاوضات لا تنتهي، وذلك بسبب قوى الضغط الصهيوني في هذا الملف. لذلك، لا غرابة أنْ يَخرُج مقال في أشهَر صحيفة أمريكية مواليه لإسرائيل (وول ستريت جورنال، 16 مايو 2025)، بعنوان: “ جولة ترامب في الشرق الأوسط تُعَزِّز الدول العربية على حساب إسرائيل”. أبو شَـنَب !؟ أبو شَـنَبَ هذا ليس شخصية خيالية، بل شخصية أمريكية حقيقية شَغَلَت مناصب حكومية كبيرة جداً. ولكن قبل الكَشف عن شخصية أبو شَـنَب، لنقرأ ما قاله تعليقاً على قرار الرئيس ترامب الرفع الفوري للعقوبات الأمريكية على سوريا: “لا أفهم لماذا تَمَّت العملية بهذه الطريقة. أحمد الشرع كان اسمه الحربي الجولاني، عندما كان إرهابياً في جبهة النُصرَة. واضح أنَّه خفَّفَ مِنْ لحيته واستبدل لباسه العسكري ببدلة وربطة عُنُق، وحصَل على نصائح جيده في العلاقات العامة. ولكنه لازال بحاجة لأن يتخذ خطوات مُقنِعة لنا بأنّه لم يَعُد إرهابياً. أنا سعيد بأنَّـه عدو لإيران، ويجب علينا الاستفادة مِنْ ذلك. اعتقد أنَّ ترامب طلب منه التوقيع على اتفاق إبراهيم والاعتراف بإسرائيل واتخاذ خطوات أُخرى ضد الإرهابيين. ولكن هذا لا يكفي. كُنتُ سأُطَالِب بأفعال، لا مُجَرَّد أقوال، قبل رفع العقوبات. ولكن ترامب لم يَطلُب ذلك ولم يَطلُب بقية الالتزامات قبل أنْ يرفع العقوبات عن سوريا. بالنسبة لي، هذا ليس فَنّ الاتفاقات والمفاوضات. ولكن إذا أرادت الحكومة السورية رفع العقوبات الأمريكية عنها، يجب عليها الالتزام ليس فقط بمحاربة الإرهاب والاعتراف بإسرائيل، ولكن تقديم تقييم كامل وشامل عَمَّـا قام به نظام الأسد تجاه الرهائن الأمريكيين وغير الأمريكيين. يَجب عليهم فتح جميع مُنشآتهم للتفتيش مِنْ قبَل أمريكا أو جهات دولية حول عمليات الأسلحة الكيميائية والأسلحة البيولوجية لنظام الأسد، للتَأكُّـد مِنْ تَوَقَّف هذه الأنشطة تماماً. أيضاً عليهم الالتزام بمنع تركيا مِنْ ممارسة نفوذ غير مُبَرَّر في شمال سوريا، كذلك يجب عليهم طرد الروس مِنْ القاعدة الجوية والبحرية في طرطوس. إذا قاموا بهذه الأشياء، حينها أرى رفع العقوبات، ولكن ليس الآن”. بعد أنْ أعلَن الرئيس ترامب في نهاية كلمته بمنتدى الاستثمار السعودي الأمريكي عن رفع أمريكا عقوباتها على سوريا فوراً، جرى لقاء ثلاثي لولي العهد الأمير محمد بن سلمان والرئيس ترامب والرئيس السوري أحمد الشرع، بترتيب شخصي مِن سمو ولي العهد. وعلى مَتن الطائرة الرئاسية بعد مغادرة الرئيس ترامب الرياض، لنقرأ رَدّه على سؤال عن رأيه بالرئيس السوري أحمد الشرع بعد لقائه، حيث قال: “إنَّه شخص رائع، رائع، وشاب وسيم وجذاب. رجل قوي، له ماضٍ قوي جداً، مُقاتِل. ولكن لديه فرصة جيدة للحفاظ على تماسك سوريا”. كلمات بسيطة نَبَعَـت مِن انطباع شخصي للرئيس ترامب بعد لقائه بالرئيس أحمد الشرع، بعيده كل البُعد عن التصنيف والأحكام المُسبَقَة والطلبات والالتزامات التي قالها “أبو شَـنَب”، أحد أركان الحكومة العميقة. “أبو شَـنَب” هذا هوَ السيد جون بولتون، مستشار الأمن القومي في الفترة الأولى لرئاسة ترامب، الذي لم يستمر في منصبه سوى 17 شهراً (إبريل 2018 ــ سبتمبر 2019)، حيث أقالَه الرئيس ترامب. والمُتابِع للأحداث التي تَلت إقالة بولتون وهجومه على الرئيس ترامب قبل وبعد خسارته انتخابات 2020م أمام بايدن، ووعود ترامب بالقضاء على “الحكومة العميقة” في أمريكا أثناء حملته الانتخابية 2024م، التي فاز فيها ضد السيدة كامالا هاريس، وكذلك التعليق السابق لـ “أبو شَـنَب” على قرار ترامب برفع العقوبات عن سوريا، يتَضِح تماماً أنَّ “أبو شَـنَب” جون بولتون هو أحد أركان “الحكومة العميقة” التي بدأ الرئيس ترامب بتفكيكها، وهي التي وَصَفَ أعضاءها في خطابه المشار إليه سابقاً بأنهم: “... أولائك الذين يطيرون في طائرات فاخرة ليُلقوا على حكومات ومجتمعات الدول النامية محاضرات عن كيفية العيش وكيفية إدارة شؤونهم ... والذين أنفقوا تريليونات وتريليونات من الدولارات وفشلوا في تطوير كابول وبغداد والعديد من المدن الأخرى”. ومِن أهمّ أجهزة الحكومة العميقة في أمريكا جهاز الأمن القومي ووكالة الاستخبارات الأمريكية ومكتب التحقيق الفيدرالي، وهي أجهزة فيدرالية ضخمة جداً يُعيِّن الرئيس الأمريكي رئيسها ويُقيله، ولكن جَرَت العادة بألاّ يتَدَخَّل في شؤون إدارتها. ولكن يبدو أنَّ الرئيس ترامب سيُغيّر مِن هذه “العادة” !! خُلاصَة القول، أنَّه عندما تكون القيادة السياسية في أي دولة قوية وحريصة على مصالحها الوطنية، فلا مجال للدول الأُخرى، حتى العُظمى مِنها، سوى احترام هذه الدولة وقيادتها والتعاون معها بما يخدم مصالحهم المشتركة. ولم تَشهَد المنطقة العربية مُنذُ حرب يونيه 1967م قيادة عربية سياسية قوية وواضحة في أهدافها الداخلية والخارجية مثل قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ورؤية ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، التي جَعَلَت المملكة قَلْب العالم العربي سياسياً واقتصادياً دون مُنازع. فالله نسأل أنْ يُوَفِّقهم ويكفيهم شرّ أعدائهم.