مسرج بالنهار

ذاكرتي التي يخر سقفها من كل مكان - الآن - إن يكن لها فضل - في مرحلتي العمرية الحالية - فهذا يعود إلى احتفاظها بأشياء صغيرة ، وطريفة عشتها أيام طفولتي عندما كانت جزيرتي “ فرسان “ يعتمد سكانها على البحر . وعلى السفن الشراعية التي تخضع لاتجاهات الرياح حين تسافر ببحارتها إلى الغوص بحثا عن مكامن المحار ، والأصداف ، ومن ثم المتاجرة باللؤلؤ . وليس هذا هو الجانب الذي أكتب عنه الآن ، ولكني سأتحدث عما كانوا يسمونه “ المجاوشه “ ١ بين فرسان ، وأقرب مدينة إليها “ مدينة جيزان “ ٢ التي تبعد عنها حوالي “ ٥٠ “” كيلا - بحرا - . هذه الخمسون كيلا قد تقطعها السفينة الشراعية خلال ساعتين أو ثلاث ساعات -إذا كانت الرياح حسب ماتشتهيه السفن- وقد تستمر في الابحار يوما وليلة ، أو يومين - بلياليهما - إذا كانت الرياح معاكسة والأمواج هائجة ، أو تكون ساكنة تتهدج فيها خدود الأشرعة ، وتظل راكدة على ظهر البحر . على أن هذه السفن الشراعية - التي تسيرها الرياح - كان عددها لايتجاوز ثلاثا أو أربعا تعتمد فرسان عليها في جلب المواد الغذائية ، ومراسلات البريد الحكومي الذي تكفل أحد أصحابها بإيصاله - في الذهاب والإياب - دون مقابل مادي أو عمل وظيفي . كانت الأغذية التي تجلبها السفن - إلى الجزيرة - تقتصر على أكياس “ الطعام “ ٣ والرز ، والسكر ، والشاي ؛ وتنكات السمن ، و” السليط “ ٤ والقاز ، وبعض الكماليات الأخرى . لم تكن في الجزيرة - آنذاك - محلات تجارية كبرى ، وإنما كانت الحوانيت الصغيرة - الموزعة في زوايا الحارات ، والأزقة الضيقة ، ومنعطفاتها ، هي الأماكن التي يمارس فيها أصحابها البيع والشراء - حسب إمكاناتهم المتواضعة - والسفن الشراعية كان سفرها من فرسان وجيزان - ذهابا وإيابا - لايتم إلا بموجب أوراق حكومية تسمى “ كوشان “و “ بطنطه “يدفع فيه رب السفينة مبلغا من النقود للإدارات الحكومية التي يعنيها الأمر ، ولا يختلف عن ذلك الانسان الذي يزاول السفر بين الجهتين - فرسان وجيزان في السفر والعودة - فهو لايسافر إلا بتذكرة يطلقون عليها “ جواز “ يدفع فيه المسافر مبلغا من المال . كان هذا النظام من مخلفات الحكم العثماني، ثم امتد إلى عهد “ الإمارة الادريسية “ قبل العهد السعودي . ولأن السواحل التي ترسو فيها السفن الشراعية بعيدة عن موقع السكان بما يتراوح بين ثلاثة أكيال أو ستة أكيال فإن الجمال كانت هي الوسائل التي تنقل على ظهورها البضائع ، وكان “ شيخ الجمالة “ هو الذي يوزع الأحمال على أصحاب الجمال وياخذ مقابل ذلك شيئا رمزيا عن حمل كل جمل . أما بالنسبة للتمييز بين هذه البضائع فقد كان عند أبواب مستودعات التجار - في جيزان - عمال بأيديهم آنية صغيرة فيها قطران ، وعيدان تشبه المساويك تغمس رؤوسها في الآنية ، ويكتب على كل كيس أو “ كرتون “ أو تنكة اسم صاحب الحانوت في فرسان ، حتى لايحصل تداخل بين البضاعة . ولعل من أطرف الأشياء أن احد أصحاب الحوانيت اسمه “ علي “ وكان مستواه المادي أفضل من غيره فأراد أن يتميز عن الآخرين من أمثاله ، فبدلا من أن يكتب اسمه واضحا كان يرمز له بالرقم “ ١١٠ “ هذا الرقم في الترتيب “ الأبجدي “ يعني أن حرف العين رقمه “ ١٠ “ وحرف اللام رقمه “ ٤٠ “ وحرف الياء “ ٦٠ “ ليكون مجموع اسم علي ابجديا “ ١١٠ “ أصحاب الحوانيت في الجزيرة كانت حالاتهم المادية متفاوتة ، فبعضهم تسمح لهم مستوياتهم التجارية بالاستمرار في البيع والشراء ، وبعضهم لم يتمكنوا من الاستمرار ، ويصبحون غارقين في المديونيات ، ومطالبين من قبل دائنيهم بما عليهم من ديون ، ولا يحميهم شكاوى الدائنين - إلى الحكومة إلا ان يعلق الواحد منهم “ سراجا “ على واجهة حانوته في رابعة النهار ليعرف الآخرون أنه أفلس ويكفوا أو يمتنعوا عن مطالبته ، لكنه مقابل ذلك لايستطيع أن يستدين من أحد شيئا ، ولا أحد يعطيه دينا عليه ، وبالتالي تنطبق عليه العبارة المشؤومة التي يتداولها الآخرون “ فلان مسرج بالنهار “. *جزيرة فرسان _______ ١- المجاوشه : السفر المستمر بين فرسان وجيزان ٢- جيزان : هكذا ينطقها القدامى ٣ - الطعام : حبوب الذرة الحمراء التي تزرع في منطقة جازان ٤ - السليط : زيت السمسم ٥ - الحوانيت : الدكاكين الصغيرة