المثاقفة وإشكالية المركزية الشرقية..

الرحلات الحجازية المغربية في القرن الثاني عشر الهجري.

هذا هو الكتاب الحائز على جائزة ابن بطوطة (دولة الإمارات) فرع الدراسات ٢٠٢٢- ٢٠٢٣، من تأليف خالد الطايش، وعنوان الكتاب المثاقفة، والمثاقفة على وزن مفاعلة فعل يقتضي تفاعلا بين طرفين كل منهما يثقف الآخر، وهذه إحدى المحاور المركزية في الكتاب، ففي الخيال العربي أن الحجاز يمثل موقع المركزية الثقافية بالنسبة للثقافة الدينية، فالعلماء يمضون إليه ليتعلموا ويتأهلوا في العلوم الشرعية، ثم يعودون إلى بلادهم فينقلون ما تعلموه، لكن هذا الكتاب يقول إن علماء المغرب كانوا يذهبون إلى الحجاز فيعلموا ويتعلموا على قدم المساواة مع علماء الدين في الحرمين، علماء المغرب قصدوا البقاع المقدسة لأغراض تجاوزت القصد الديني إلى العلمي، وقد أسهم تدوينهم في تراكم تراث معرفي غني، شكل مثالا ناصعا على التثاقف والتواصل بين ضفتي العالم الإسلامي. وقد حاول الباحث تقديم مقاربة تاريخية للرحلات الحجازية المغربية في القرن ١٢ه‍/١٨م، باعتبارها من المصادر التاريخية لتاريخ المغرب والحجاز وكثير من البلدان الواقعة على طول درب الحجيج، فالرحلات على خلاف الكتابة التاريخية التقليدية تنفرد بأوصاف وإفادات تستجلي البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية لحقبة تاريخية شهدت تحولات هامة في تلك المنطقة من المغرب، تلك المنطقة التي بدأ الرحالة رحلتهم منها، وقد اختار الكاتب كتب خمس رحلات لرحالة خرجوا من منطقة سوس جنوب المغرب للحج. ومنطقة سوس دأب الباحثون على تسميتها ب “العالمة”، تقديرا لفضل أهلها وإسهاماتهم في ميدان العلم. والرحلات هي الرحلتان الكبري والصغرى للهشتوكي، ورحلات الحضيكي والدرعي والعيني. في الرحلات المغربية الحجازية تتباعد المسافات جغرافيا، ولكن هناك تقارب ثقافي يصل حد التطابق، بينما في الرحلات المغربية نحو أوروبا فإنه رغم التقارب الجغرافي إلا أن هناك تباعد حضاري وثقافي يزداد جيلا بعد جيل. تتميز الرحلات بخصائص رسخت مركزيتها النصية، فهي تحفل بالشعر والتراجم والنقول والإجازات العلمية، والحديث عن النوازل، الأمر الذي يعنى أحيانا أن يكون النص الرحلي ثانويا حين تغفل الجوانب الذهنية والاجتماعية التي تحفل بها المتون الرحلية. وفي أحيان يتحول النص الرحلي إلى نص شاهد على مواقف علمية (حلق علم، دروس، مناظرات..) أو سياسية (صراع سياسي، مظالم..) أو تربوية أو اجتماعية (تبرج النساء، بخل القبائل أو كرمها..)، ويواكب خطاب الرحلة وصف جغرافي وعمران واجتماعي وبشري، وحديث عن رجال العلم والأدب، وما دار في مجالسهم من مناقشات، إضافة إلى ذكر كثير من الفوائد العلمية والدينية والتاريخية والأدبية والرسائل والإجازات والأشعار. ويتجلى في هذه الرحلات تقليد الموازنة بين فضاءين وقيمتين وصورتين. تبدو نصوص الرحلات كنوع من الدَين يؤديه الرحالة إلى إخوانه الذين لم تُتح لهم هذه الفرصة، فنجد كاتب الرحلة يرشد من يأتي بعده إلى أفضل الطرق والمسالك، وأكثرها أمنا وأبعدها عن قُطاع الطريق، كذلك يبين تكاليف الرحلة، ويحتسب الرحالة الأجر في إرشاد غيره إلى أهم المناسك، وكيفية أدائها على الوجه الأكمل. من حوافز الرحلة الظاهرة أن فيها نوع من إثبات الذات فكثير من المغاربة لم يجدوا التقدير في بلدانهم ولم ترتفع مكانتهم إلا بعد تزكية المشرقيين لهم وثنائهم على مستواهم العلمي أو الفني. إذ يًنظر إلى الرحالة العائد من رحلته على أنه قد استكمل أدوات البحث والمعرفة، واكتسب المناهج المعرفية المطلوبة، وكأنه قد تخرج من مدرسة علمية ممتازة. ولذا فقد حفلت نصوص الرحالة بتقديم المعرفة والتربية الشاملة، بشكل يجعل من مؤلف الرحلة أستاذا وشيخا، ومن القارئ تلميذا ومريدا، كما أن ارتباط الرحالة بالركب الصوفي الذي عمل بتنظيم رحلات المحيط جعل من الكتابات دعماً للنزعة الصوفية ونشرا لمبادئها. كذلك اتسعت حركة استنساخ رحلات الحجاز المخطوطة كي يستصحبها الحجاج للاستئناس بها في رحلتهم. ونظرا لأهمية رحلة الحج فإن كثيرين من المغاربة كتبوا عنها حتى لقد أصبحت كتابة الرحلة “ صناعة من الصناعات”. ورغم أن الرحلة فن نثري إلا أن بعض الرحالة نظم رحلته شعرا وتأرجحت قيمة هذا الشعر، بين نظم تقريري واضح يخاطب عقل المتلقي من أجل تزويده بمعارف ومعلومات، وشعر يعتمد الخيال والصورة، يخاطب شعور المتلقي لإثارته وإمتاعه. ونظرا لأن معظم الرحالة لم يكونوا مهتمين بـ اقتصاد الكلام، وأغلبهم كان يكتب بحس موسوعي فقد استفاضوا في الاستطرادات اللغوية والدينية والعلمية. ومع ازدياد الرحلات العلمية المغاربة نحو الشرق تطور حسهم النقدي، وبعد أن كانوا ينظرون بنوع من الإبهار والتقديس لكل ما هو قادم من المشرق، صاروا ينظرون إلى الفكر المشرقي من منظور نقدي علمي. يلاحظ الباحث أن رحلات الأندلسيين والمغاربة إلى المشرق كانت أكثر من رحلات المشارقة لديارهم، ولم يقلل من وفرة الرحلات الحجازية في القرنين التاسع والعاشر الهجري إلا ما ظهر من رغبة لتفضيل الجهاد على الحج في أعقاب الاستخفاف المتوالي بالمسلمين من الغرب الإسلامي، وفي أعقاب ما تناهى إلى رجال الحكم في المغرب مما يعانيه الحاج من تعسفات وإهانات في المراكب الأجنبية، خصوصا عندما تعطل الأسطول المغربي، وبالأخص عندما فرضت المحاجر الصحية إجراءاتها الصارمة، بحجة ما قد يصيب الحاج من وباء. في عصر الرحلات التي درسها المؤلف كانت الرحلات السائدة هي الرحلات البرية، عبر ما سمى بطريق الفقهاء، لما كان يتيحه من تواصل مع أهالي المناطق التي يمرون عليها، أما الرحلات البحرية فقد كانت قليلة، وذلك لسيطرة القراصنة على طرق البحر، وقد عادت الرحلات البحرية إلى الصدارة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. أحد الرحالة يفتتح رحلته بدأ السفر، مثل الاستخارة والتوبة، وسداد الديون، وكتابة الوصية وتخيير الزوجات بين الصبر والانتظار والتسريح بإحسان. وهذا غريب ولعل ذلك لأن الرحلة ذهابا تحتاج ستة أشهر، ثم الحج والجوار بمكة والمدينة وبالأزهر في القاهرة أحيانا مما يطيل فترة الفراق. كما تتضمن توصيات عن حسن معاشرة شركاء الرحلة، والصبر على الأذى من الخدم والجمالين. ثم يأتي الحديث عن المستلزمات المادية، من ملبس ومأكل وسلع الإتجار والمقايضة على الطريق، وعلف الدواب، والمال والأسلحة. والملاحظ أنهم كانوا يحملون البضائع العطرية، وهي ما تزال إلى اليوم تباع في متاجر العطارة، حيث يتم بيعها على الطريق. ويهتمون كثيرا بالحديث عن التكاليف المادية للرحلة، ويحدثنا أحدهم أن مجموعة من الدراويش لم يتمكنوا من المواصلة وعادوا من جربة التونسية إلى المغرب لضيق ذات اليد. أما ركب الحج فأصبح مع الوقت مؤسسة قائمة بذاتها لها أجهزتها، لتأمين سلامة الحجاج في رحلة محفوفة بالمخاطر. وكان الركب يضم الشرفاء والأعيان والعلماء وذوي الحيثيات، كما كان يضم صعاليك الحجاج، وهم من البسطاء الذين يخدمون الركب ويحرسونه ويذودون عنه، يشبههم الكاتب بما تقدمه مؤسسات الأمن الخاص في الزمن الحالي. وهناك العبيد والخدم الذين يصحبهم البعض للقيام على خدمته. وهناك مجلس تنظيمي له السلطة العليا، يضم القاضي والأمير وممثلين عن القبائل المشاركة، وعملهم يشبه عمل البرلمان اليوم. ويضم الركب أدلاء، وكانت هذه المهمة توكل إلى عائلات مشهورة بمعرفة الطرق الصحراوية. وهناك العَلام وهو الذي يرفع العلَم لتنبيه أفراد الركب إلى شيء ما، إذ كان الركب من الضخامة بحيث لا يُرى آخره من أوله. وينبه رفع العلم إلى الاستعداد للتوقف أو حصول نازلة من النوازل كالتعرض للصوصٍ أو قُطاع طرقٍ، ومن مهام العلام التفاوض عن الركب مع أمراء الأماكن التي يستأذنون في دخولها. كما هناك الجمالون وهم من يأتون بجمال يُكرونها فتحمل الأمتعة والبضائع. كما يوظَف البَراحُ، وهو المنادي المسؤول عن تبليغ الحجاج بصوته عن كل مستجد. وهناك وظائف تحكيمية للحكم بين الناس. وحيث إن القوافل تتحول إلى مراكز ثقافية فإنها توظف من يقوم بنشر النشاط الثقافي كالمسامرات وتوزيع الكتب وقراءتها، وكلما احتوى الركب على عدد أكبر من العلماء كلما كان حظه أوفر من ترحيب سكان الواحات والقرى على طول الطريق. يمر الحجاج في الطريق الذي يستغرق سنة في الذهاب والإياب بمشاقٍ تضاريسية ومناخية عبر فصول السنة، تجد في الرحلات وصفاً للشعاب والوهاد والثُنيات التي على الحاج أن يتجاوزها وأحيانا أخري يمر بأدوية وخوانق ومضايق، ومنحدرات ضيقة، وبعض الممرات قليلة الهواء أو مرتفعة درجة الحرارة، أما رمال الصحراء فتعيق حركة الدواب بسبب كثبانها الضخمة أو زوابعها، وعواصفها الهوجاء التي تنعدم معها الرؤية فتضطر الركب للتوقف حتى تنتهي. كما أن وعورة الأرض قد تؤدي إلى زلق الدواب خلال سيرها في الأوحال التي تكثر بعد نزول المطر، وكذلك السير في السبخات، كما يؤذيها السير على الأراضي الصخرية كذلك، ولا يماثل معاناة الحاج الشديد من الحر في طريق الذهاب إلا معاناتهم من البرد والصقيع في طريق العودة، وفيما يخفف التشوق للحرمين من الأولى يضاعف من الأخرى، خاصة مع قصر ساعات النهار وتطاول ساعات الليل. كذلك تحدث الرحالة عن أمطار مكة، وصفها أحدهم أنها كأفواه القرب تملأ المسجد الحرام وتدخل جوف الكعبة وترتفع حتى تصل إلى ارتفاع القناديل المعلقة بأعمدة الحديد التي بالمطاف. أدت هذه الأمطار إلى هدم بيوت، وتعطيل صلاة الجمعة في الحرم، وأضاعت أموالا كثيرة، كما تعطل إحياء ليلة القدر، ويصف أحدهم ما حصل فيقول: لم أخرج من مُعتكفي حتى بلغ مني الماء مكان الاستنجاء، وصعدت مع الأدراج فوقفت فيه حتى انقطع الماء، وجلست للذكر إلى الصباح، فنادى السلطان مسعود (لعله يقصد أحد الأشراف! من أهل مكة)، وجاء مع أصحابه وقواده وأكابر دولته فوقفوا بالقرب لغسل المطاف، واستمروا على ذلك لقرب الزوال، وفتحوا مجاري الماء المسدودة، فخرج الماء بسرعة، وجعل الناس يطوفون، ومن ذلك اليوم والناس يخدمون في نقل الرمل والعشب الذي دخل المسجد بالسيل، إلى قرب دخول الحج، فلم يُتموا العمل حتى دخل ذو الحجة وبقيت بقية. والكتاب حافل بما يستدعي التأمل، وما يوسع من نظرتنا للحج كشعيرة عبادية، ورحلة علمية وعملية، ودور الحج في الارتقاء بحياة المسلمين وجمعهم على الخير. (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير﴾ سورة الحج ٢٨