الطنطاوي يروي سيرة الجامع الأموي..
المسجد الذي نجا من الزلازل واحتفظ بروح العصور الإسلامية.

كتاب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، كان في الأصل مجموعة من البرامج التي أذيعت من إذاعة دمشق، ولذا فإن قارئ الكتاب الذي يعرف الشيخ الطنطاوي من خلال برامجه الإذاعية والتلفازية سيشعر وكأنه يستمع الى الشيخ بحديثه الثري وأسلوبه الفكه، وقد رأت دائرة الأوقاف السورية عام ١٩٦٠ أن تجمع المقالات في كتاب يوزع على السياح الذين يستقطبهم الجامع من كافة أنحاء المعمورة. والعنوان يتحدث عن الجامع الأموي في دمشق، فإن هناك مجموعة مساجد تحمل اسم الجامع الأموي مثل الجامع الأموي في حلب، والجامع الأموي في جرش. ويعكس الانبهار المعماري في بناء الجامع تأثر الأمويين بما رأوه من معابد أهل الكتاب التي رأوها في سوريا، ولقد أخذوا عنها الصوامع (المآذن) والمحاريب. كما أنهم اجتهدوا في فنون الزخرفة والفسيفساء، على نمطٍ لم يكن مما يرتاح له المسلمون، فالإسلام يشجع البساطة في بناء المساجد، حتى لا تصرف الفنون فيها عن التوجه بالقلب والعقل إلى مناجاة الله تعالى. يذكر الكاتب عددا كبيرا من المساجد التي مر بها في شرق الدنيا وغربها، لكنه لم ير بعد المساجد الثلاثة - التي ميزها الله بأجر الصلاة - مسجدا هو أقدم قِدَما وأفخم مظهرا وأجمل عمارة وأحلى في العين منظرا من الجامع الأموي في دمشق. وقد كان مركز دمشق الجغرافي، ومدرستها ومحكمتها وناديها ومتنزهها. وقد اولع الكاتب مبكرا بالجامع، وظل ينقل كل خبر يجده عن الأموي أربعين عاما منذ عام ١٩١٩، ويعتذر أنه لم يذيل كتابه بمرجع كل معلومة، فيقول إنه ألف كتابيه عن أبى بكر وعمر رضي الله عنهما، وذيل صفحات الكتابين بأسماء المراجع، فجاء من نقلوا عن كتابه ونسبوا ما نقلوه إلى المصادر التي ذكرها وأهملوا ذكر كتابه. ويذكر من هؤلاء العقاد ومحمد حسين هيكل، ولذا فإنه لم يعمد إلى ذكر مصادره في هذا الكتاب. والطبعة التي بين أيدينا طبعة حققها حفيد الشيخ، مجاهد ديرانية، وزادها صورا فوتوغرافية أضافت إلى جمال الكتاب. وأضاف إليها بعض ما ورد عن الموضوع من كتب أخرى للشيخ، ومقالات عن الأموي جاءت في مصادر أخرى. والكتاب ليس عن الأموي وتاريخ عمارته فقط، بل فيه وصف دقيق لهندسة بنائه ومجالات الجمال فيها، وما دخل فيه من تعديلات منذ كان معبدا وثنيا، ثم أصبح كنيسة، ثم أقام المسلمون مسجدا على جزء منه. وبعدها ضموا كل الكنيسة إلى البناء واجتهدوا في أعماله، وكذلك هناك تفصيل عن الزلازل والحرائق التي تعرض لها، وإعادة بنائها. دخل المسلمون دمشق من جهتين، دخلها أبو عبيدة من باب الجابية صلحا، ودخلها خالد بن الوليد من الشرق عنوة، وعليه فإن نصف الكنيسة الواقع جهة دخول خالد أصبح للمسلمين فحولوه إلى مسجد، أما نصف الكنيسة الآخر حيث دخل المسلمون صلحا فبقى كنيسة، ومع الوقت أصبحت نواقيس النصارى تشوش على المسلمين صلاتهم، و لما كانت عهود المسلمين لا تسمح بأخذ الكنيسة عنوة، فقد عرض الوليد بن عبدالملك على رؤوس النصارى أن يأخذ الكنيسة ويبنى لهم أضخم منها فرفضوا، فعرض عليهم أن يعوضهم بأربع كنائس ومالٍ كثير فرفضوا، فذكر لهم أنهم قد خالفوا العهد وأقاموا أكثر من كنيسة منها كنيسة توما، ولذا فإنه سوف يهدم البناء المخالف، فوافقوا على أن يعطوه الكنيسة ورجوه أن يأخذوا أربع كنائس بالمقابل فأعطاهم، و بدأت إعادة الإعمار، فلم يبق من الكنيسة إلا الجدران و صومعتان (منارتان) أصبحتا مئذنتين وأضيفت لهما مئذنة أخرى وسط الجدار الشمالي سُميت مئذنة العروس، وذُهِبت كلها من أعلاها إلى أسفلها. ولما قدم المهدى العباسي الشام في طريقه إلى بيت المقدس، قال لكاتبه: يا أبا عبدالله، سبقنا بنو أمية بثلاث، قال: وما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا البيت (يعنى الأموي)، ونُبل الموالي، فإن لهم موالي ليس لنا مثلهم، وعمر بن عبد العزيز، لا يكون فينا مثله أبدا. ولما وصل إلى بيت المقدس ورأي قبة الصخرة قال: يا أبا عبيدالله، وهذه رابعة! ويذكر بعض المستشرقين أن عمارته تخرج عن نمط العمارة السورية النصرانية المتوارثة وأنه بني على غير مثال سابق. ومما ذكر من الغرائب أنه لما أقيم الهيكل، عمد الوليد إلى رفع القبة، وأرادها سامية باسقة، فلما تمت سقطت، فشق ذلك على المسلمين، فجاء بناءٌ شامي، فحفر حتى وصل إلى الماء ثم وضع الأساس، وغطاه بالحرير وانتظر عاما كاملا، ثم جاء وكشف الحصير فوجد أن البنيان قد انحط قليلا وقال: من هنا كان سقوط القبة، ابنوا الآن فإنها لا تهوي بإذن الله، وهكذا استقرت القبة. وعزم الوليد على أن يغطى القبة بالذهب، فأشار عليه العقلاء بألا يفعل، فأمر أن تُغطى بالرصاص، فجمع كل ما استطاعه من الرصاص، وبقيت قطعة من السقف لم يجدوا لها رصاصا إلا عند امرأة يهودية أبت أن تبيعه إلا بوزنه ذهبا، فوافق الوليد، فلما بلغ المرأة ذلك تنازلت عن الذهب وجعلته هدية للمسجد، وقالت: إنما كنت اختبر عدل الإسلام. الجامع ساحة تحيط بها الأعمدة من ثلاث جهات، ويقع حرم المسجد في الجهة الرابعة، ويقصد بحرم المسجد الجزء المسقوف منه، ويقع في وسطه رواق عال من الشمال الى الجنوب، تتوج الرواق قبة النسر، وهناك ثلاثة أروقة تتجه من الشرق إلى الغرب وكلها من المرمر، وقد أُسدلت على أبواب الحرم ستور مزدوجة من الديباج والوشي، وغُطي باقي الجدار وجدران الصحن بالفسيفساء. والفسيفساء فصوص صغيرة، تكون من الزجاج والحجر ومن الرخام والصدف، مختلفة الألوان والأشكال، فمنها المثلث والمربع والمسدس والمستطيل، تًرصف على طبقة من الجص المصنع أو نحوه، وربما حليت بالذهب وغُطيت بالزجاج أو ما يشبهه. وكانت أرض المسجد وجدرانه وسقوفه مغطاة بهذه النصوص المذهبة التي جمعت صور بلاد الدنيا كما قال المؤرخون، وحسبوا ما أنفق عليها أيام الوليد فقالوا إنه سبعون ألف دينار. وهذه بقيت على حالها حتى حريق عام ٤٦١ للهجرة. وهناك عدة مشاهد (مصليات صغيرة)، كما أنشئت عدة محاريب، محراب لكل مذهب من المذاهب الأربعة، وكان في كل منها صلاة، وأحيانا تُرتب الصلوات، رغم أنه لا يجوز تعدد الجماعات في وجود إمام راتب. يقوم بناء الجامع على ما يزيد على ستين عمودا، بعضها مرخم ترخيما عجيبا، وهناك نوافذ زجاجها ملون ومُذهب تسمى شمسيات، وعددها أربع وسبعون. وفي الصحن ثلاث قباب، كل منها بناء منفصل، على اعمدة رخامية، وهي آية في الحسن. وللجامع اربعة أبواب، ثلاث منها تفضي إلى دهليز، والدهليز أمام الباب الشرقي فيه أقواس ونافورة ماء وكلها آيات في الحسن. وفيها ساعة جميلة دقيقة تعطى الوقت في النهار والليل، ويصفهما الطنطاوي وصفا عجيبا. حينما ولي عمر بن عبدالعزيز رأي أن هناك إسرافا في عمارة المسجد وعزم على إعادة ما وضع في زينته من الذهب إلى بيت مال المسلمين، فشق ذلك على الدمشقيين وأخذوا يراجعونه في ذلك، وبينما هو على هذا العزم جاء وفد من بلاد الروم، فدخلوا المسجد، ثم أغمى على رئيسهم بينما كان ينظر إلى القبة فلما أفاق سًئل قال: إنا معشر أهل رومية نتحدث أن بقاء العرب قليل، فلما رأيت ما بنوا علمت أن لهم مدة سيبقونها فأصابني ما أصابني. فلما علم عمر بن عبد العزيز رجع عن عزمه، وقال: لا أرى مسجد دمشق إلا غيظا على الكفار. بقى الجامع على بهاء حاله حتى القرن الخامس الهجري إذ كاد يأتي عليه حريق وبقي خربا حتى جدده الوزير نظام الملك، وحدث حريق آخر في القرن الثامن الهجري، وظهر من التحقيق قيام مجموعة من النصارى بذلك، كما جاء في وثيقة محفوظة في جامعة ليدن بالسويد، والوثيقة هي محضر تحقيق رفعه تينكز والى دمشق إلى سلطان مصر، ويظهر أن هذا حدث ضمن سلسلة من الأحداث قام بها النصارى في مدن إسلامية مختلفة كما يروي المؤرخ ابن كثير والمؤرخ المقريزي، حسب مقال نشرته مجلة المجمع العلمي الدمشقي عام ١٩٥٦م. كما دمر كامل الجامع تقريبا في عهد تيمورلنك، وفي كل مرة كان يعاد تجديده. الحريق الأخير حصل عام ١٣١١ هجرية، وأتى الحريق على معظم ما اجتهد المسلمون في بنائه خلال أربعة عشر قرنا، وأظهر أهل دمشق كرما عظيما من أجل إعادة بنائه، منهم من تخلى عن نصف ماله وأكثر. ولم يبق في دمشق عامل إلا اجتهد في العمل للمسجد لوجه الله، وعندما وجدوا أنهم بحاجة إلى تبديل الاعمدة التي تآكلت، واستعصى عليهم الأمر أشار عليهم عبدالله الحموي بأن ينقلوا حجارة ضخمة من جبل المزة، واقترح عليهم صنع عربة مستطيلة تجرها ثيران، ومن أسفل سطح خشبة العربة تنزل مواقع يثبت فيها جزء من العمود ثم يتم جره، فكرة عظيمة لم يأخذها صاحبه من أحد من المتقدمين. وقد نجحت هذه الطريقة. وكانت العربات حين تسير عائدة إلى الجامع الأموي يصحبها أهالي دمشق بالأهازيج والغناء. في جانب من المسجد قبر منسوب ليحيى عليه السلام، ولكن الطنطاوي يتشكك في صحة هذه النسبة، كما أنه في جانب آخر يوجد مدفن رأس الحسين بن على سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك أقوال أن رأس الحسين مدفون في مسجد الحسين في القاهرة، ولكن الطنطاوي ينفى ذلك بشدة بناء على ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية. من الإضافات المهمة التي أضافها المحقق للكتاب ستة مقالات عن الجامع الأموي، وثلاثا عن الزلازل والحرائق التي دمرت الجامع أو أجزاء منه، كلها وردت في كتب عكست روح عصرها، من أطرفها ما نقله عن يوميات البديري الحلاق، والأطرف من الكتابة قصة الكاتب والكتاب، البديري كما فُهم من كتابه حلاقٌ كتب بالعامية، ولعله لم يهتم بحفظ كتابه وكان يكتب لنفسه، وحدث أن الشيخ محمد سعيد القاسمى اشتري من عند العطار شيئا، ثم التفت الى الورقة التي احتوت ما اشتراه فقرأ ما فيها، و استنتج أنها جزء من مخطوطة، عاد إلى العطار و اشتري كل ما له علاقة بالورقة جمعها فكانت هذه المخطوطة الفريدة، وهي تغطى إحدى وعشرين سنة من أواسط القرن الهجري الثاني عشر. كتاب جميل يزين لك زيارة دمشق وجامعها، وأوصي باصطحابها لكل من يزور الأموي لكى يطابق المكتوب على المنظور، وأهم عندي من ذلك أنك ستستمتع بالمشاعر الجميلة التي يحس قارئ الكتاب أنها كانت تفيض من روح علي الطنطاوي على السطور. رحم الله أديب المشايخ علي الطنطاوي.