
تَحِلُّ الذكرى الرابعة لرحيل الشاعر أحمد البهكلي، وقد هدأ رَوْعُ الفَقْدِ، وسَكَنَتْ دَهْشَةُ الرحيل، فآنت استعادة خيوطٍ من شُعاعِ شاعرِ الجمال والرِّقَّةِ والقِيَمِ النبيلة؛ الذي أُخِذْتُ مبكرًا بصوته وشعره؛ وهو يُلقي قصيدتَه: (حَجَرٌ وطِين)، التي كتبها عام1974م، كنت في المرحلة الثانوية حين سمعتُها بإلقائه أول مرة، في أمسيَّةٍ شعرية مُسَجَّلةٍ، وربما يكون افتتاني بها، إضافةً إلى غناها الشعري، وأدائه الصوتي العميق؛ لأنها تروي قصةَ حُبٍ تَبَرْعَمَ في تُربة البراءة، وأينع تحت غمامة الصِّبا، وكاد يثمر؛ لولا أن اغتالته عواصفُ الحياة.. أنا فوقَ نارِ جفاكِ مِرجَلُ لهفةٍ يغلي حنيـنْ طالتْ عليه مسافةُ الزمنِ الموشَّحِ بالأنيـنْ فغدوتُ يا حُلُمي الجميلُ برغمِ إخلاصي مَدِينْ رُدِّي شريطَ الفكر منكِ فربما تتذكريـنْ يومَ التقينا لاعبيـنِ بكومَةٍ: حـجرٍ، وطيـنْ طفلين نجهلُ ما الحياة؟ وما الزمانُ؟ وما المنـونْ؟ آتِـي إليك بذلك الطين الجميل فتضـحكيـنْ وأراكِ تَطَّرِحِيْنَهُ في الماء عندكِ كي يليـنْ وظللتُ أتَتَبَّعُ ما يُنشر من شعره، وما أجدُ من دواوينه، ثم أسعدني لقاؤه في عددٍ من المناسبات الثقافية، وقدَّمتُه في إحدى أماسيه الشعرية، ودارت بيننا حواراتٌ عَبْرَ الهاتف، وصفحات التواصل، والتقيتُه في حفل المتخرجين في جامعة جازان عام2014م، وأهديته بعض كتبي، فأسعدني بمنشور عبر صفحته في الفيس بوك؛ قال فيه؛ مُشَجِّعًا، ومُحِبًّا: “هذا أديبٌ، ما شاء الله، عالي الخُلق متعددُ المواهب، غزيرُ الإنتاج، من (ألمع) بلدة العلم والأدب والشعر والمواهب الثرية. إنه إبراهيم مضواح الألمعي. ابحثوا يا أصدقائي عن كتبه وكتاباته واقرؤوها، وستطلبون المزيد”. (23نوفمبر2014م). والبهكليُّ من القلة الذين استطاعوا النفاذ إلى روح الشعر، ومقاربة الحالة الشعرية، على نحوٍ يشفُّ عن وعيهِ التام بماهية الشعر، وقدرته الفائقة على تطويع اللغة، وسوق الصور المتتابعة في سبيل كشف حالة الإلهام، ومعاناة المخاض الشعري؛ فقال: الشِّعْــرُ عِنْـدِي الوَرْدُ إنْ فَتَّـحَــا الشعــرُ عنـدي الوردُ إنْ صَوَّحَـا الشعـرُ عنـدي الحُـزْنُ إذْ يَرْتَميْ غَمَـامَةً تَحْجُـبُ شمـسَ الضُّحَى الشعرُ عندي الفَرَحُ الْ(يَحْتَوِيْ) قلبـين طُــولَ العُمـرِ لَمْ يَفْرَحَـا الشعـــرُ ذَوْبٌ شَهْــــقَةٌ رَعْشَـــةٌ إذا ادَّكَــــرْنا صَحْـــبَنَا النُّــزَّحَــا الشعـــرُ عَـيْنٌ سَفَحَــتْ دمعَـها تَبْـكِيْ دمَ الإنســـانِ أنْ يُسْـفَحَا الشـــعرُ عنــديْ ليس أُنشْـوطَةً أَلْهُـــــوْ بهـــــا كلاّ ولا مَـرْبَحَــــا قبل اجتيـاحِ الشعــرِ تجتــاحُني كآبــَــــةٌ أشتـــــــاقُ أَنْ أَفْـرَحَـــا تَصْطَـــفُّ في جمجـمتي أَوْجُـــهٌ غريــــبةٌ تَكْـتُـبُ لِيْ مَــا امَّــحَى يَرْكُـضُ نَبْـضُ القلـبِ عَيْنِيْ هنـا تَغُــورُ كيمـــا تُبْصِـــرَ المَسْـرَحَا لا شيءَ مِنِّيْ غــير َرَعْــش الرُّؤَى يُقَــــلِّبُ الأَغْمَــضَ والأَوْضَـــحَا ويَنْتَـقِيْ ذا الَوجْـهَ، مــا أَمْلَحَـا مُجَــــاوِزًا ذلكَ، مـَـــا أَقْبَحَــــا حتى إذا مـــا غـــابَ وَعْيِيْ بِهَــا وحَـــارَتِ العَيْنـــانِ أنْ تَلْمَحَــا والْتَقَــــتِ الذَّاتـــانِ ذاتيْ أنَـــا وذاتُ شيء ٍمثل (بَرْقَ امْصَحَا) بينهــما الفكــرةُ تَضْــنَى كَمَـــا سِمْسِــمَةٌ مـــا بَيْنَ قُطْبَيْ رَحَـا كُنْ فَيَكــونُ الشِّعْرُ، مــا لِيْ يَدٌ فِيـــهِ، ولا أَمْـــلِكُ كَيْ أَمْنَحَـــا وقد كنتُ قبل ذلك وبعده أتابع ما يَنْشُرُ مِن قصائدَ، ومقالاتٍ، وخواطرَ في وسائل التواصل؛ وطابعها الدائم الشعور المرهف تجاه قضايا الوطن والمجتمع والإنسانية بأسرها، والإعلاء من شأن الحق والخير والجمال؛ وربما أبديتُ ملحوظة، أو وجهةَ نظرٍ حول منشوراته؛ أبعثُها في رسالةٍ خاصةٍ؛ فيرد ويبين ما خفي عني، أو ما جهلته، متقبلًا الرأي ممن هو في منزلة تلميذٍ من تلاميذه، بل ويُغمرني بالتقدير لأنني ناقشته، أو اختلفتُ معه، ويقول: “هذه شهادة تزيدني ثقة في نفسي واعتزازًا بأصدقائي الأنقياء؛ وإبراهيم مضواح في مقدمتهم”. (23يونيو2017م). ثم التقيتُه في معرض الكتاب بجامعة الملك خالد، في أكتوبر 2018م، وقد دعي لتقديم أمسيِّةٍ شعرية، فكان ملء السمع والبصر. واستمرَّ التواصلُ، والمثاقفة والسؤال، برغم جائحة كرونا التي حالت دون اللقاءات، ولكنَّها عزَّزَتْ التواصل عن بُعْد؛ ولم يكن يفوتني شيءٌ من منشوراته، لما فيها من اعتزاز بالدين والوطن، والقيم النبيلة، والإيجابية، والتفاؤل، والثقة بالمستقبل، وفي (25يناير2020م)؛ نشر على صفحته نفثةَ مصدورٍ؛ في بيتين، تسرَّبَ من خلالهما الأسى إلى صدور محبيه؛ قال فيهما: وتُـرِيــنا مــآســيًا ورزايا كلَّ يومٍ تَفُتُّ فينا المَنايَا لا نلاقِيكَ مُفْلِسيـن خَزَايَا رَبِّ أَحْسِنْ لنا الخواتيمَ حتى وبرغمِ نبرةِ الأسى لم يتوقف عن تقديم خلاصات أفكاره النيِّرَة، وخواطره المُشِعَّة، وفي منتصف عام2021م، دخل المستشفى؛ ومحبوه يترقبون، يساورهم القلق، حتى وقع القضاء المحتوم، ورحل أحمد البهكلي في(25أغسطس2021م)، وأَسِفَ النَّاسُ وهم ينعون واحدًا من أفذاذ الرجال؛ الذين وهبهم الله خصالاً قلَّما تجتمع في رجل واحد؛ من: وسماحةِ النفس، وجلاء المنطق، وغزارةِ الشِّعْرِ، وسداد القول، وسعةِ الخلق، ووفرة العلم، ونبل المواقف، وأصالة الرأي، والقبول لدى أطياف مختلفة من الناس، واحترام الموافقِ والمخالف؛ وكلُّ تلك السجايا كانت طبعًا لا تَطَبُّعًا، وأنَّها كانت مبذولةً في سبيل العلم وطلابه، والأدبِ وأسبابه، خالصةً لما ينفعُ الناس، ويحفظُ لهم الحقوقَ، ويدفعُ عنهم الأذى.