(في حضرة الرواية نبعث من جديد)

عندما تعصف بنا الحياة، وتحملنا صروفها بعيدًا عما نحب ونهوى، نقرأ فلا نجد للحرف موضعًا، ونقبل على الكتب فتدبر عنّا بمعانيها وزخمها. حينها، نجد الرواية كقارب نجاة، أو كمحطة، تعيد صلتنا بالحرف، تقرّبنا إلى أنفسنا، وتجمع شتات أفكارنا، وتضيء على ما كُبِت في أرواحنا. تجمع ما تناثر منا، وتعيننا على أن نشكّل منه المعنى. من بين أصناف الأدب المختلفة، نجد في الرواية قدرًا عاليًا من الحرية لا يتوافر في غيرها: حرية الإسقاط لدى الكاتب — بل التسامي، إن صحّ التعبير — حيث يسمح التسامي بتحويل الألم إلى أداة فنية فاعلة، لا إلى سلاح مشرّع، وحرية التأويل عند القارئ! وكما قال الطاهر بن جلون: “كل قارئ هو مؤلف ثانٍ للنص”. فلكلٍّ منا تجاربه، وخبراته، وحصيلته المعرفية التي تشكل هويته، وما هو عليه، والتي تؤثر وتتأثر بما يقول، ويفعل، ويقرأ. فالرواية أرض مشتركة، تضيء لكلٍّ منّا ما أظلم في نفسه، أو ما أزاح — حيث يستخدم الإنسان “الإزاحة” كحيلة دفاعية، يُحوّل من خلالها مشاعره غير المرغوبة، أو العاجز عن التعبير عنها، إلى مشاعر سلبية أخرى، تتعلق بأشخاص أو مواقف لا صلة لها بالسياق الأصلي. وحين تقترب الرواية من داخلك، تصبح أقرب إلى السيطرة عليه، والتحكّم فيه. إنها تعرّينا، تضعنا أمام أنفسنا، تجمع ما تناثر منها، وتبتسم قائلة: “جمّع القطع، أكمل المشهد، انظر من تكون.” ومع ذلك، فليس كل رواية قادرة على أن ترقص في المنتصف، وتتحرك بخفّة بين ومضة الكاتب وتأويل القارئ. لكنني وجدت ذلك في رواية “ريش أحمر”. رغم قلّة صفحاتها، إلا أن الأرواح التي كانت تحاكي بعضها البعض، وُلدت جميعها من روحي، باختلافها وتنوعها. رواية بمثابة عدسة مكبرة على عالم خارجي يبدو منظمًا، لكنه يحمل خصائص عشوائية، وعالم داخلي نقي ومنهمر، يُحكم عليه بالجمود. قوالب عديدة تُفرض فجأة؛ إما أن تتقولب بها، أو تُزيحك بعيدًا، وحيدًا. وببساطة لغتها وخفة سردها، إلا أنها تختزل عواطف إنسانية صادقة، عميقة، خالية من التعقيد. خرجتُ منها بأرواحٍ عدّة تحوم حول روحي، وبصديقٍ نفيس: حيّان، الطفل الحيّ، الشاب الأصيل الوفي، الغزالة التي ضحّت في سبيل حبٍ صادق نقي، الطائر الحكيم الذي كان الحقّ موقعه، يقظان، الذي لاذ انتصارًا للروح التي يحملها، ففّر العالم إليه، وجذلان، الغريب الذي كان محكومًا بنبل العمّ يقظان. بدأتُ الرواية وأنا أحلّق في جنبات الغابة، وانتهيتُ وأنا أزحف مثقلة بزحام المدينة. رواية اجتماعية، نفسية، فلسفية؛ تتجلّى فيها المعاني ببساطة ووضوح، وبعمقٍ يليق بأبعادها.