قراءة في مجموعة ناصر محمد العديلي (وقت للحب والحرب)..

تقاطع فنون السرد وتداخل شؤون الذات وطموحاتها ورؤاهامع الشأن العام موقفاً وفِكراّ.

ناصر العديلي من الرواد المؤصلين لفن القصة القصيرة الحديثة في المملكة العربية السعودية منذ صدور مجموعته الأولى (الزمن والشمس اللذيذة) عام 1985، وفي هذه المجموعة التي قرنها إلى سابقتها في كتاب واحد وذيل عنوانيهما بوصف (قصص قصيرة) في حين أن النصوص في (مجموعته الجديدة) متصلة السياق في سردية كلية وإن بدت مستقلة، جمعت بين خصائص فن القصة القصيرة والفنون السردية الأخرى. مزج لافت يجمع بين هذا الفن والسيرة الذاتية والمذكرات واليوميات؛ كل ذلك يتبدّى منذ النص الأول في هذه المجموعة التي تتّضح ملامحه منذ سطور الإهداء الشخصي التي تشير إلى ملامح هذه المجموعة: حيث وصفها الكاتب بنبض الحكايات الجديدة والحكايات القديمة مضافة إلى ياء المتكلم وربطها بالحكايات المستقبلية إذا كان في العمر بقية؛ ولا يظنَّن من يقرأ هذه السطور أنني قفزت خارج الموضوع؛ فالنص المرقوم بخط الكاتب وقلمه عتبة رئيسة من عتبات النص، تقود بالضرورة إلى استقراء النصوص و فهمها، ويأتي النص الأول بالغ القِصَر ليقفز إلى خِضَمِّ المجموعة مؤطّرا لها بتوصيف يلخّص كينونة صاحبها ، ويغوص إلى جوهر الوجود الإنساني متقرِّياّ تضاريس الحياة بمجملها في سلسلة متنامية من محطاتها منذ عتبة الخلق الأولى: آدم الذي ولد وأحب وعشق وتزوج وأنجب: نصٌّ استهلاليٌّ مُحمَّل بعلامات تومئ إلى مراحل الحياة المختلفة كما يتصوّرها، مشيرة إلى مبتدئها وامتدادها دون أن يذكر نهايتها، إشارة إلى استمرارها ما يشير إلى استلهامه لحكايته الذاتية التي يفسّرُها وِفقاً لمفهومه لها؛ فجوهرها الحب والعشق والخصوبة والامتداد والعطاء رؤية فلسفية طبيعية كما خبرها وفهمها، بوصفه يمثل جوهر الوجود كما يفهم من العنوان (آدم انا) . يفاجِئنا الكاتب منذ النص الاستهلالي بمنهج في كتابة القصة القصيرة مختلفٍ عما ألفناه في أدبيات القصة القصيرة؛ فهو يصرّح بالحروف الأولى من اسمه الثلاثي في إشارة واضحة إلى خصوصيّة الحدث وذاتيته ؛فيبدو وكأنه يدوِّن مذكراته الخاصة وفي الوقت ذاته يروي الوقائع بضمير الغائب وكأنّه يتحدث عن آخر مُخاطِبا القارئ بضمير المتكلم مُذكّراً بما سبق أن كتبه في مجموعته الأولى (الزمن والشمس اللذيذة) مشيراً إلى ما تبقّى لديه ، فضلاً عن ذلك يوضّح رؤيته النقديّة بما يشبه النظريّة فيتحدث عن” يؤمن بأن الكاتب الحقيقي هو من يكتب قصة واحدة أو رواية واحدة في حياته حتى لو تنوعت حكاياتها ونسخها وطباعتها عبر الزمن “ ويتطوّع بجُملةٍ من الإرشادات لقارئ مجموعته هذه ، في حديث حميم للقارئ باعتباره صديقا ، ويتطوّع بإيراد تفاصيل عن كتابة القصص التي ألفها وأماكنها وأزمنتها مشيراً إلى بعضها على وجه الخصوص ، ومن الظواهر المُميِّزة التي تتقاطع فيها الفنون والأنواع حديثه عن البطل في قصصه الذي يتماهى معه بوصفه كاتبها في إشارة إلى مجموعته الأولى شارحاً فلسفته ورؤيته وهو يتحدث عن هذا البطل، مُنزاحاً عن المألوف في أسلوب كتابة هذا الفن مُسجّلاً عتبةً جديدة تقود إلى سمة حداثيّة تجريبيّة ؛حيث تتداعى فيه مذكراته التي تتعيّن زماناً ومكاناً مُشيرةً إلى تجربته الذاتية وتأملاته للطبيعة في حائل، ومخزون الذاكرة التي تفيض بالتفاصيل حتى تلامس - عبر خصوصيتها السرديّة - سقف الرواية ، ويلتفت مفارقاً موقع الراوي العالم إلى السارد بلسان ضمير المتكلم مُصرّحاً بذكرياته عبر قوله “ كنت أتذكر في طفولتي في حائل” متنقلاً - عبر مراحل حياته ومفارقاتها الزمنية و المكانية - ما بين مسقط رأسه و مُغْتَرَبه في بعثته التعليمية في (أركيتا) في تفاصيل أقرب إلى كتابة اليوميات مشيراً إلى نمط حياته وبرامجه اليومية، ويعود ثانية إلى الرواية بضمير الغائب مستكملاً الحديث عن جوانب في حياة بطله الذي يتوحّد معه تارةً وينفصل عنه تارةً أخرى مذكّراً بازدواجيّة المفارقة التي تؤطّر سرديّته الخاصة (الحب و الحرب) الزواج و الحرب الكبرى بين العراق وإيران؛ فكأنّما يفتح قوسين لهذه الثنائيّة تضم ذكرياته ومسيرته في إطار هذه القصة القصيرة التي تحافظ على السمة الرئيسة لفن القصة القصيرة (فن الأزمة) وسياق التوتر الذي يَسِم النّصَّ بميسم هذا الفن ، ولحظة التنوير في نهايته التي لا تكتمل إلا بالسياق الكلي للمجموعة . يستكمل الكاتب فيما بعد - عبر سياق متصل - تفاصيل ما بدأه في قصته الأولى في تَداعٍ استرجاعيٍّ خالٍ من التوتر مُترَعاً بالمتعة مستملِحاً طرائف الذكريات في قصته التي تتّسق مع المتن الزمني والنفسي لرحلة الحياة الخاصّة ببطله (كاتب المجموعة) ف(وقتٌ للحب فرحة آدم) وكما يتضح من العنوان يخرج الكاتب من عباءة الذات ليجعل منها تموزجاً إنسانيّاً جامعاً في إشارته لأبي البشرية (آدم) الذي يتقمّصُه ويتماهى معه ، عبر رؤيته الفلسفيّة للحياة البشريّة ، وفي تَقرٍّ واضح للملامح النفسية التي ذكرها الكاتب في سرديّته عن رفيقة الرحلة التي أوغل في ذكر ملامحها ، مُركِّزاً على قسمات رفيقته قارئاً لما يعتمل في وجدانها من مشاعر مختلطة بين الفرح والحزن الحب والاحتراب الداخلي مع ألم الفراق ، وقد اختار اسماً دالّا لها (حسناء) وبدا واضحاً أنه يكمل سرديته التي عمد إلى تقديمها أقساطا وفي مراحل وخطوات ، عمد في كل نصٍّ من نصوصها الذي بدا أشبه بفصل من فصول روايته أو سيرته الذاتية تحت عنوان (رحلة العسل). ويتوقف الكاتب هُنيْهه في مستهل النّص الموسوم بـ(التيه في التفاحة الكبيرة) مُومئاً إلى الثمرة التي كانت سبباً في خروج آدم وحواء من الجنة (مستذكراً الحرب الضروس) مستغرقاً في الخطاب المتأمّل في قراءة فلسفيّة لرحلة الحياة وارتباطها بواقع مرحلةٍ حرجةٍ كانت تمر بها المنطقة قبل أن يستأنف تفاصيل سرديته (التاريخ) وفقا لمصطلح الشكلانيين الروس الذين كانوا يستخدمون مصطلح (الخطاب) حين يتوقف السرد و(التاريخ) عند متابعة الوقائع ، واللّافت أن الكاتب كان لا يوازي بين تفاصيل الرحلة (رحلة العسل) في سياقها المبهج واندلاع الحرب في تتابعها المقلق محافظاً على سمة التوتر التي تمّيز فن القصة القصيرة. اللافت للانتباه أن القصة المعنونة (البعثة استجداد آدم) تتضمن مدخلاَ وفقراتٍ مُرقّمة متسلسلة زمنياً في شكل يوميات أو مذكرات عن رحلة الدراسة إلى أمريكا وتحمل ملامح أدب الرحلات من حيث الحديث عن طبيعة البلدان ومناخاتها وتتبّع سير الرحلة ومحطّاتها، وهي في الوقت ذاته ثمّة فصل جديد في روايته وسيرته الذاتية عل الرغم من الانحراف عن المألوف باستعارة اسم(آدم) في إشارة إلى كونيّة المكابدة الإنسانيّة وموازاة معاناة الذات بمعاناة أبي البشرية كلها (آدم). وفي الفصل الذي يليه (آدم وحواء) يعمد إلى مخاطبة (آدم) الذات ، ثم يتابع الحديث بلسان ضمير المتكلم ، ويستغرق الفصل في محاكاة المشهد الجامع الى حفلة الموسيقا والأغنيات مُدشّنة مرحة جديدة في صياغة علاقة الذات بالمرأة التي اقتحمت حياته من أبواب متعدّدة ، مستحوذة عل اهتمامه ، ويمضي الكاتب في سرديته الوصفية مستكملاً رحلته إلى مدينة (سان فرانسيسكو) وأعياد الميلاد ، وتحركاته داخلها بعينيّ السائح مستغرقا في تفاصيل التعامل والسلوك في هذه المدينة وأزمنتها ومعالمها ومواصفتها والشريط الساحلي للمحيط الباسيفيكي، ولعل ها الفصل الي حمل عنوان الرقصة الأخيرة يمكن تعريفه بأنه من أدب الاعترافات, منهج اتبعه الكاتب في مستهل كل قصة (فصل) خطاب مُوجّه إلى الذات في حميميّة واعتراف ونشوة وعبرة واعتبار؛ وكأنما الذات قد انشطرت يخاطب بعضها بعضا ، ملمحٌ حداثيٌّ فيه تتكاثف المشاعر وتنفرج عن ملمح يتمظهر فيها الوعي ويتأمّل ويسترجع وينزاح عن المألوف فناً وواقعاً ، ثم تحدث النقلة في نهجٍ توثيقيٍّ وكأنما يعيد الكاتب تدوين يومياته في تفاصيل تبدو روتينيّة ؛ ولكنها تتجاوز ما هو عادي و مألوف بمجرد إعادة تموضعها في سياق فنيٍّ جديد؛ فالإضاءة توجه عدسته اللاقطة نحو المرأة الفاتنة الرفيقة والملهمة ومناط التأمل وصياغة الرؤية ، وفلسفة التناول حين تتسلط على دائرة الفن ، استغراق غير مألوف في ملاحقة التفاصيل تتقاطع فيها عملية الوصف مع السرد يؤطرها التأمل ويستنطقها السياق . في النسق السيري الذي يتوازى مع الأنساق الأخرى : الرحلة والقصة واليوميات والمذكرات يتوقف عند محطة مهمة ذات بعد فكري فيه تغذية للوعي وغوص إلى مدى يلامس الهم الوطني والقومي الذي يتمثّل في عنوان الفصل (البروفسور) الذي أعتقد جازما أنه الهم الرئيس الذي يشغل المؤلف منذ أن وضع عنوان المجموعة السردية التي تتقاطع فيها (السيرة مع الرحلة مع القصة مع الرواية) حيث كان المحور الرئيس الحوار الذي دار بينه وبين البروفيسور حول تسمية الخليج العربي وما انتهى إليه من تجمّع دول الخليج العربي في (مجلس التعاون الخليجي) . تظهر مصداقية العنوان ومطابقته الدلاليّة للمضمون في الجمع بين العام والخاص؛ الحُب بوصفه تجربةً خاصةً والعام لكونه تجربة عامة، وعبر كلٍ منهما يتشكّل المسار التاريخي لتجربة الكاتب ، وعملية الترقيم وتحويل النص إلى فقرات ومفاصل في سياق زمني منتظم يأخذ بعضه برقاب بعض ، والحرص على إضفاء صفة الخصوصيّة على حركة الشخصيات بأسمائها وأهوائها وعاداتها ؛ وذلك من سمات السّيَر وأساليبها ؛ كما في فصله المعنون (أرو ى في الخليج) التي عاد فيه للممارسة أسلوب الرحالة حيث سلط فيه عدسته الذاتية على أدق التفصيل الخاصة بالسلوك و الظواهر . والتزاماً بسُنّتِه الأسلوبية عاد ليخاطب ذاته بعد أن أضاف إليها شركاء جدد يشاركونها في صنع وقائع حياته ؛ ووظّف الحلم في إطار جديد له علاقة بتخصصه المعرفي وحياته الخاصة بيومياتها المعتادة ؛ واشرك رفيقه الجديد صانعاً حواريته حول الحرب والسلام في المنطقة بحمولتها وهمومها وتقاطعها مع الدائرة الذاتية الخاصة، ومضمونها السيري الرحلي التي دأب فيها على تنضيد المشاهد في توالد منتظم ، وعبر الأفعال الماضية التي تتسلسل عبر شريط الأحداث في انتظام واتّساق وتوالٍ رتيب ، ولم يغفل الكاتب البعد النفسي حين أنهى الفصل بما حدث مع إحدى فتيات الليل التي طاردته مما دفعه اشمئزازه منها إلى التقيؤ الذي أنها به هذا الفصل ، ولذلك دلالة أخلاقيّة وحضاريّة . ويعود القهقرى في استرجاعٍ سرديٍّ إلى مرحلة مبكرة من حياته فأتى على ذكر مدرس القراءة ولعبة الكتابة بالحروف والألوان في فصل جديد تحت عنوان (بقايا الطباشير) يتنقل الكاتب بعد ذلك - وليس من قبيل الصدفة - أن يُتبِع هذا الفصل بفصل آخر يعود به إلى زمن الطفولة مع (مزنة) ومع في مذكّراته وسيرة حياته ورحلته، بين لحظات الفرح و القلق والدهشة تبرز مواقفه بوصفه مثقّفاً ومُفكّرا له رأيه وإحساسه بكينونته وبالوجود حوله وفلسفته ورؤيته ، كما يتبدى ذلك في الفصل المُعنوَن (الموسيقى لا غيرها). “ساعدتني الموسيقى على النمو والتعلّم، علمتني ثقافات مختلفة وطرق مختلفة وفي التفكير فتحت قلبي وعقلي” وقد أغرته الموسيقى إلى استئناف الحديث عنها في الفصل الحق (رقصة الأطلس) . ومهما يكن من أمر فإن الكاتب قد اختطّ نهجاً جديداً في تعامله مع السّرد، فعمد إلى تحقيق فكرة وحدة الأنواع ، مستفيداً من الخصائص الجماليّة لها مجتمعةً حيث يمكن الدخول إليها من مختلف الأبواب المشرعة أمامه ، في رؤية يخلص فيها لذاته الفنيّة بوصفه مُبدعاً وإنساناً ، يلتزم حدود واقعه ويذهب في تفسيره طرائق يؤمن بها ويخلص لها ، فهو الأديب والمفكّر والمعنيُّ بحقل تخصُّصه والمتعلق بذكرياته و المتأمل لوقائع حياته الخاصة ، والمتدبّر للشأن العام والمُستمتِع بفرص اللهو والمتّسِق مع متن المرحلة بهمومها ومُضطربها و مآلاتها .