المتوكل طه في «أيام خارج الزمن»..

نصف قرن من الدم والحبر.

هذه سيرة كاتب من فلسطين، الشاعر المتوكل طه، الذي شغل عدة مواقع مهمة في الضفة الغربية، فقد كان رئيسا لاتحاد كتاب فلسطين، وأسس بيت الشعر، وعمل فترة وكيلا لوزارة الإعلام، ولربما لم يعرف في الوطن العربي كما عُرف شعراء الوطن المحتل الذين سبقوه والذين نالوا شهرة كبيرة، يقول عن ذلك: أنا من الجيل الذين ولدوا في فلسطين المحتلة عام (١٩٦٧)، وتفتح وعيهم الاجتماعي والسياسي والفكري في بداية السبعينيات ونهاياتها، وشكلوا ظاهرة مميزة لم يكلف أحد نفسه بالبحث في نتاجها أو في نبش تضاعيفها، فقد تكونت- لسبب ما- رؤية نمطية عن ذلك الجيل وعن إنتاجه، أقل ما قيل فيه: إنه نتاج خطابي ومباشر ومنبري ومتشنج وغير فني، وإنه متحامل ومنحاز وعاطفي وليس فيه جماليات تُدرس وأساليب تستساغ. ومن السهل على قارئ هذه السيرة أن يرفض الاتهامات النقدية التى سيقت ضد هذا الشاعر وزملائه، فهى من أجمل السير من ناحية بنائها وفنياتها، وشاعرية نثرها، ولعل في عزلة هذه المجموعة من الكتاب خلف الحدود التي يقف عليها جنود صهاينة تفسيرا لعدم معرفتهم في المحيط العربي، رغم أن هؤلاء كانوا مطلعين على الإنتاج الفكري والأدبي العربي، فالكاتب يعدد عشرات كتب السيرة الذاتية التي قرأها ، ويقف متمهلا عند سيرتين منها، أحدهما سيرة سعد زغلول باشا ويشرح لنا لماذا أسرته، والسيرة الأخرى هى سيرة الكاتب سعيد السريحي (الحياة بين الأقواس) ، التي يذكرها في فقرتين من كتابه، يقول: “إن الحياة والأشياء يُعاد بناؤها بعدما تصبح كتابة على رأي الكاتب والناقد سعيد السريحي، الذي أخذنا وهو يسرد سيرته من الرويس إلى مدينة جدة… وصولا إلى مكة المكرمة، حيث تخرج من كلية الشريعة قسم اللغة العربية، مصحوبا بأمه التي أثثت قلبه بالإيمان والعطف، مثلما كانت حكاية جدته العمياء ذات المئة عام هي من فتحت له نوافذ القصص والحكايات والخيال. وجدتني مفتونا بهذا الكاتب الجسور السلس، الذي يفيض حكمة وهدوءا، ويكاد لعمقه أن يأخذك إلى عوالمه الزاخرة المدهشة”. يذكر الكاتب ما سمعه عن لحظة ولادته عام ١٩٥٨م، كانت الوالدة تستلقي وقد أجهدها الطلق، وكادت تختنق، لأن ماء الرأس قد خرج والجنين معترض قليلا! فما كان من الخالة ظريفة إلا أن مسكت رجل الوالدة ونفضتها مع الفخذ، فاتخذ الجنين وضعه الطبيعي وخرج! ومع ولادته بالضبط كان المؤذن يرفع أذان المغرب، والبلد تفيض بأمطارها. سئل والده ماذا تريد أن تسميه، قال: والدته تريد أن تسميه جاسر على اسم أخيها الذي قُتل قبل عامين (كان ذلك في هجوم إسرائيلي على مبنى مقاطعة قلقيلية، حيث قُتل ثلاثة وسبعون شهيدا)، وأما أنا فأريد تسميته المتوكل، وعندما تساءل الحاضرون: ولماذا المتوكل؟ لأننا ونحن نجاهد عام ١٩٣٦، كنا نبدأ رسائلنا إلى بعضنا البعض” من المتوكل على الله إلى المجاهد فلان الفلاني”، أريد أن أتذكر أيامنا في الجهاد قبل أن أُعتقل سبع سنوات عند الجيش الإنجليزي في سجن عكا. خرجت بعين واحدة، و يد تشهد على ثلاث رصاصات، و ساق تشهد على شظية شقت اللحم والعظم. في رحلة نزوح مؤقتة عند حرب ١٩٦٧ جاء المخاض إحدى النازحات، نزفت حتى ماتت، لا أحد يستطيع أن يسعفها. عندما حصل على شهادة الثانوية أراد أن يدرس فن التمثيل والإخراج في القاهرة، رفض الأخ الأكبر، فلا ينبغي أن يصير أحد من العائلة مشخصاتيا، يشرب الخمر ويعاقر النساء، ووقفت العشيرة مع أخيه ومن ثم التحق بجامعة بير زيت. الجامعة تموج بالنشاط و بالوطنية. اثنان من الشباب قضي كل منهما خمسة أعوام في السجن، بنشاطهما اجتذبا شبابا كثيرين من تنظيمات اليسار إلى فتح. وقبل أن ينهي أى منهما متطلبات التخرج طاردهما الاحتلال بشراسة بالغة، تمكنا من الهرب إلى مصر، بعد أن قطعا سيناء مشيا على الأقدام، انتهى الأمر بعد سنوات إلى أن أصبح أحدهما سائق أجرة في بلد أمريكى بعيد، وعاد الآخر بعد اتفاق أوسلو ضابطا في جهاز الأمن التابع للسلطة، ويعلق هنا تعليقا حارقا (لم يكن يختلف عن أي ضابط آخر في ذلك الجهاز إلا بحجم الاحترام الكبير والوفاء الذي يلقاه من تلاميذه أينما حل أو حضر) . برز صاحبنا شاعرا من خلال أسبوع سوق عكاظ الأدبى الذي تقيمه جامعة بيرزيت وأصبح شاعر الجامعة، حيث لكل جامعة من جامعات فلسطين شاعرها. وعندما تخرج كان قد قضى مثل غيره مئة وعشرين ساعة في العمل التطوعي الحقيقي، تنظيف شوارع البلدة، وقطاف الزيتون، تلك كانت تدريبا فاعلا على العمل من أجل المجتمع، وهو أساس الروح الوطنية. ومن خلال هذا النشاط تواصل مع شعراء الوطن المحتل، توفيق زياد وسميح القاسم، ورافق أستاذه إبراهيم السعافين، الذي قدم من الأردن لزيارة وطنه، عندما وصلا إلى جامع إبراهيم عليه السلام في الخليل منعهم المستوطنون من الدخول، حاولوا مناقشتهم، وإذا بفوهات البنادق تنتصب وتمتلئ العيون حقدا وشراسة، عادا بخيبة الأمل. التحق بجامعة اليرموك لدراسة الماجستير، كانت الجامعة تعج بالقامات العلمية، في مكتبتها قرأ الكثير من المصادر العربية التي لم تكن سلطات الاحتلال تسمح بوجودها في جامعة بيرزيت. كانت رسالته عن الشاعر إبراهيم طوقان، من خلال بحثه تعرف على الشاعرة فدوى طوقان التي أعطته كل ما لديها مما يخص أخاها، من رسائل وقصائد وأحاديث إذاعية، وكان من بينها ثلاثون قصيدة لم يسبق نشرها، ربطته وأسرته علاقة جميلة بالشاعرة التى زارت بيته مرارا في رام الله حيث كانت سعادتها تتجلى حين تتعامل مع أولاده، وشاركت في أنشطة بيت الشعر مثل مسرح الحكواتي، ومسرح القصبة. وكان المسرح أيامها يحتشد بالناس الذين جاؤوا يستمعون إلى فدوي وزملائها من الشعراء. قبل إنهاء رسالة الماجستير تم اعتقاله مرتين لسبب لم يعرفه، ثم أبلغته دائرة الاستخبارات الأردنية بأنه غير مرغوب فيه، عاد إلى الوطن المحتل وتم اعتقاله عند الصهاينة، ومرت تسعة أعوام، حتى مؤتمر مدريد حيث سُمح له بالسفر، وقدم للجامعة مجموعة وثائق مصدقة من دائرة الصليب الأحمر تثبت أنه كان معتقلا وممنوعا من السفر، حكاية تتكرر كثيرا في حياة أبناء الوطن المحتل. ولكن خلال تلك الفترة انطلق هو وزملاؤه المبدعون وحلقوا عاليا في آفاق الإبداع والعمل الوطني من خلال مجلة العودة، كانوا يسعون لإبراز أوجه الحياة المتصاعدة فلسطينيا، كجزء من نظرية التحدي، في مواجهة استراتيجيات الاحتلال وغوائله الهادفة إلى إلغاء الوجود الفلسطيني، كانوا يحملون آلات التصوير، يجوبون المدن والقرى والمخيمات، يتعرفون على ناسهم و أرضهم و حياتهم. كما تنبهوا إلى معرفة النقيض، من خلال قراءة الصحف الإسرائيلية و متابعة الإعلام ومراكز الأبحاث العبرية. ازدهرت مجلة الفجر الأدبي و كان رئيس تحريرها الشاعر على الخليلي الأب الشرعي لجيلين أو أكثر من الأدباء في الداخل الفلسطيني. في فصل بعنوان “ القدس” حيث موطن زوجته الذي تردد عليه كثيرا أيام الخطوبة يقول: إنه كان كلما أحس بالكآبة أو الخسران أو الحزن اتجه نحو البلدة القديمة، فيهبط من باب العمود إلى خان الزيت فسوق العطارين، ثم اللحامين أو السويقة، ويعود إلى كنيسة القيامة فجامع عمر بن الخطاب، ثم شرقا إلى طريق الواد ثم طريق الآلام ثم باب الأسباط أو باب المجلس فالمسجد الأقصى. ولكن بعد أوسلو ما عاد يستطيع أن يدخل القدس، سلام الحواجز يمنعه من المشي على بلاط الآلام والحرمان. في عام ٢٠١٠ نشر مقالة بعنوان” البراق”، تتحدث عن حائط المغاربة، حاول اليهود مبكرا عام ١٩٢٩ أن يجعلوه وما حوله كنيسا، هب العرب آنذاك لمنعهم، ووقعت صدامات بين الطرفين تطورت إلى ما عُرف ب “ثورة البراق” التى شملت معظم المدن الفلسطينية، وكانت الحصيلة مقتل ١٣٣ يهوديا، وجُرح ٢٣٩ منهم ، واستشهاد ١١٦ من الفلسطينيين وجُرح ٢٣٢ منهم. أُلحقت أضرارٌ كبيرة بالقرى والممتلكات. تدخلت السلطات الإنجليزية و أعدمت في سجن عكا ثلاثة من قادة الجماهير، رثاهم إبراهيم طوقان بقصيدة “ الثلاثاء الحمراء” التي أُلقيت في حفلة تأبين في ساحة مدرسة النجاح الوطنية بمدينة نابلس، خرج الفلسطينيون بعدها بمظاهرة عارمة ضد المحتل الإنجليزي. انبثقت جمعية “ حراس المسجد الأقصى” التى قامت بزيارات للعواصم العربية والأوروبية تحذر من إقامة الهيكل اليهودي على أنقاض الأقصى، على إثر ذلك أرسلت الحكومة البريطانية “ لجنة شو “ ، التي أوصت بتأليف لجنة دولية للتحقيق في موضوع حقوق العرب واليهود في البراق ، وتم اعتماد لجنة من قِبل عصبة الأمم، أعضاؤها رشحتهم بريطانيا، أقامت اللجنة شهرا كاملا في فلسطين عقدت ٢٣ جلسة و قدم كل طرف الوثائق التي يملكها، وانتهت اللجنة إلى أن “ للمسلمين حق كامل لا شبهة فيه في ملكية حائط البراق، وهو جزء من ساحة الحرم القدسي التي هي من أملاك الوقف الإسلامي”. وتابعت المقالة تفصيل ما فعلته اسرائيل بعد حرب ١٩٦٧ مخالفةً قرار عصبة الأمم، مثلا عندما جاء نتنياهو للحكم أول مره فتح نفقا في المنطقة يمتد تحت ساحة المسجد الأقصى، احتشد العرب يرفضون ، انتهت الأحداث آنذاك إلى هبة شعبية فلسطينية سُميت “ انتفاضة النفق”. أصدرت حكومة نتنياهو بيانا يندد بالمقال وصاحبه، وأعلنت الخارجية الأمريكية احتجاجها، وأصدرت الوزيرة هيلاري كلينتون بيانا يتهم صاحب المقال بالتطرف، ويعتبره تحريضا يعرقل عملية السلام! و تم سحب المقال من الصفحات والمواقع الإليكترونية، وأصدر معهد “ سايمون فيزنتال “ اليهودي ومقره الولايات المتحدة ، قائمة بعشر أشخاص متهمين بمعاداة السامية، ورغم أن العرب ساميين إلا أن الدول الغربية تعتبر وصف السامية خاصا باليهود. وقد تم تصنيف هؤلاء الأشخاص بناء على كلمات سخرية من اليهود، أو نقد سلوكيات معينة لهم أو انتقاد ممارسات الاحتلال الصهيوني في الأراضى الفلسطينية، أو انتقاد سيطرة اللوبي الصهيوني على الكونغرس. ضمت القائمة مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا و المتوكل طه وكيل وزارة الإعلام في السلطة الفلسطينية ، وأشارت القائمة إلى عبارات مقاله عن حائط البراق رغم أنه لم يتم من خلاله توجيه أي إسائةٍ لليهود. وطالب نتنياهو السلطة الفلسطينية بالتبرؤ من مقال طه. ورغم أن الناس كانوا متعاطفين مع الكاتب، وأصدر الاتحاد العام للكتاب العرب في القاهرة بيانا يدعمه، إلا أن المستوى الرسمي الفلسطيني دفع نحو سحب المقال وطالب بعدم الرد. لا تتسع المقالة للحديث عن تجربة الكاتب في المعتقلات، و لا ما تعرضت له والدته في مرض الموت خلال نقلها حية إلى المستشفى، و لا خلال نقل جثمانها إلى المقبرة. ذكريات حارقة ألف الرجل عنها كتابين “ رمل الأفعى” و”حبس منزلي”، كل منهما يستحق مقالا مستقلا.