الثروة.. بين عدالة السماء وصراع الأرض.

في المنظور الإسلامي، تُعدّ الثروة أمانة استخلف اللهُ الإنسان عليها، وليست مِلكًا مطلقًا يتصرف فيها المرء بلا قيد، بل هي وسيلة للابتلاء وموضع للمساءلة، ومكان للمسؤولية. يقول الله تعالى في القرآن الكريم (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) سورة الحديد - الآية 7، فهذه الآية تؤكد أن المال الذي في أيدينا هو عارية مؤقتة، استخلفنا الله فيه لننظر كيف نعمل به، وهل نُحسن الإنفاق ونعين المحتاج ونقيم العدل.؟ ويزيد هذا المعنى وضوحًا في قوله تعالى (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) سورة النور- الآية 33، فالله ينسب المال لنفسه، موجبًا أن يُصرف في وجوه البر، لا أن يُكنز أو يُستأثر به. من هذا المنطلق، يغدو الإنفاق مظهرًا من مظاهر الطاعة، والامتناع عنه صورة من صور التفريط في الأمانة. فالثروة، في عين الإسلام، ليست مظهرًا للترف، بل أداة للعمارة والرحمة والعدل. كما أنها في نظر الحكماء مظهرٌ للتمام، بل امتحانٌ للروح. فهي، وإن أغرت الأبصار ببريقها، فإنها لا تملأ فراغ النفس ولا تعوّض نقص الحكمة. فقد رأى “سقراط 469- 399 ق.م.” في القناعة ثراءً لا ينفد، و”أفلاطون 427 – 347 ق.م.” عدّ المال خادمًا لا ينبغي له أن يصير سيّدًا. أما “أرسطو384 – 322 ق.م.” ففصَّل بين ثروةٍ تُعين على الفضيلة، وأخرى تُقيّد بها، واختار “ديوجين 412 -323 ق.م.” الزهد طريقًا للتحرر من عبودية الذهب. فيما ينظر “الرواقيون 300– 150 ق.م “ إلى الثروة كشيء لا يرفع ولا يخفض، بل ما يفعله المرءُ بها، هو ما يمنحها قدْرَها. هكذا كانت الثروة أحد الفصول المركزية في الديانات ، وفي كتاب الفلسفة، قديمًا وحديثًا. فمنذ بزوغ الاقتصاد الحديث، شكّلت ‘الثروة’ محورًا جوهريًا في النقاشات الفكرية، ليس من حيث إنتاجها وتوزيعها فحسب، بل من حيث معناها الأخلاقي وأثرها في مصير الإنسان والمجتمعات. وقد اختلفت طرائق فهمها بتباين العقول والمدارس: من التنظير الليبرالي لدى “آدم سميث1723م –1790م” إلى النقد الثوري عند “كارل ماركس1818م –1883م” وصولًا إلى الرؤية التطبيقية المتوازنة التي تبنّاها “آندرو كارنيجي 1835م –1919م” ثلاث مقاربات متباعدة في المنطلق والمآل، لكنها تلتقي عند مثلث قلقٍ إنساني مشترك، أضلاعه الثلاثة: البحث عن العدالة، وتوق الاستقرار، وهواجس المصير.يُعد الفيلسوف الاسكتلندي “آدم سميث “ الأب المؤسس لعلم الاقتصاد الكلاسيكي، وقد شكّلت رؤيته للثروة جزءًا محوريًا من كتابه “ثروة الأمم” . في نظر هذا الفيلسوف، لا تكمن الثروة في الذهب والفضة، بل في القدرة الإنتاجية للأمة. فكلما سيطرت حرية السوق، وقلّت تدخلات الدولة، تحركت “اليد الخفية” التي تقود الأفراد الباحثين عن مصالحهم الشخصية نحو خدمة الخير العام، دون قصد منه. لم يكن “ آدم سميث” نفعيًا خالصًا، بل استند إلى خلفية أخلاقية واضحة، ففي كتابه المرموق “نظرية المشاعر الأخلاقية” شدد على أن التعاطف، والعدالة، والحياء، هي أسس ضرورية لسلوك الإنسان. وهذا يبيّن أن دعوته إلى الحرية الاقتصادية لم تكن دعوة إلى الفوضى، أو إلى العبثية غير المسؤولة، بل إلى إطلاق طاقات السوق في ظل التزام أخلاقي ووعي اجتماعي. لكنه في الوقت ذاته، لم يكن غافلًا عن التفاوتات التي قد تنتج عن آليات السوق غير المنضبطة. فقد عَبَّر بوضوح أن أصحاب رأس المال قد يتآمرون في الخفاء على حساب العمال، محذرًا من تمركز المصالح دون رقابة واعية. لكنه مع ذلك، ظل يعتقد أن الآليات الذاتية للسوق، متى ما وُجِّهت بالتشريع النابه، كفيلة بضبط الإيقاع. أما “كارل ماركس “ الألماني فإنه لم يكن اقتصاديًا فحسب، بل فيلسوفًا ثوريًا حمل همّ “تحرير الإنسان” من سلاسل الاستغلال الطبقي. ورأى في الرأسمالية نظامًا يقوم على اغتصاب فائض القيمة من العامل، حيث يبيع جهده بأقل مما ينتجه، لتتراكم الثروة في يد الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج. في كتابه الشهير “رأس المال” وضَّحَ “ماركس” كيف أن الرأسمالي لا يثري إلا عبر استلاب جهد العامل. والثروة – في نظره - ليست مجرد تراكم مادي، بل نتيجة لعملية “اغتراب مزدوج” اغتراب العامل عن منتجه، ثم عن ذاته الإنسانية. وهذا ما يجعل الثروة، في رأي “ماركس” قرينة بالظلم البنيوي، وليست مجرد خلل في التوزيع. حيث دعا “ماركس” إلى إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وتحويلها إلى ملكية جماعية، تقضي على الطبقات وتُحرر الإنسان. ورغم أن كثيرًا من التطبيقات الماركسية انزلقت إلى الاستبداد، فإن تحليل “ماركس” بقي مرجعًا نقديًا أساسيًا في كل قراءة للثروة من زاوية العدالة الاجتماعية. ثم يأتي ثالثهم “آندرو كارنيجي “ المولود في أسكتلندا لعائلة فقيرة، ثم هاجر إلى أمريكا حيث أصبح أحد أبرز أقطاب صناعة الحديد والصلب. لكنه، وعلى خلاف غيره من الرأسماليين، لم ينظر إلى الثروة بوصفها امتيازًا شخصيًا، بل عبّر في مقالته الشهيرة “إنجيل الثروة” The Gospel of Wealth عن رؤية تقدمية فحواها أن “الثروة أمانة، وعلى صاحبها أن يُعيد توزيعها لمصلحة المجتمع”. كان “كارنيجي” يؤمن بأن “الرأسمالية” ضرورية لتوليد الثروة، وأن الكفاءة الشخصية تلعب دورًا حاسمًا في تحقيقها. لكنه في الوقت ذاته، انتقد فكرة التوريث، ورأى أن ترك المال للأبناء يفسدهم، وأن الأفضل أن تُصرف الثروة خلال حياة صاحبها في بناء المكتبات، والمستشفيات، ودعم الجامعات، وتطوير الفنون ونحو ذلك من الأعمال الخيرية. ومما ميّز “آندرو كارنيجي” هو سعيه لتحقيق نوع من “الوسطية العملية” بين آلية السوق وضرورة العدالة. فلم يطالب بتكريس النظام الرأسمالي، ولم يدعُ لهدمه من أساسه، بل نادى بترشيده من الداخل، عبر نشر ثقافة “الواجب الأخلاقي عند الأغنياء” ومن هنا، جاءت أفعاله منسجمة مع أقواله، إذ أنفق ما يزيد على 90% من ثروته في حياته على مشاريع الخير العام. عند استحضار هذه الفلسفات اليوم، نجد أنها لا تزال حاضرة في الأدبيات العامة والجدل الاجتماعي. فخطاب “الليبراليين الجدد Neoliberals “ يتماهى مع رؤية “آدم سميث” وإن كانوا أقل التزامًا بمراميها الأخلاقية التي أكد عليها “ آدم سميث” أما فلسفة “آندرو كارنيجي” فقد أطلقت ما يعرف اليوم بـ “الرأسمالية الواعية “ Conscious Capitalism والتي تتجلى في نماذج مثل مبادرات “بيل غيتس” و “وارن بافيت” وغيرهم من المانحين المعاصرين. حيث تكمن قيمة فلسفة” آندرو كارنيجي” في كونها تمثل صيغة معتدلة، تنطلق من واقع النظام الرأسمالي دون أن تقدّسه، وتنادي بتحقيق العدالة دون أن تسقط في فخ الشمولية الثورية. لقد أدرك “آندرو كارنيجي” أن الثروة ليست هدفًا في ذاتها، بل وسيلة لتحقيق نفع عام، وأن القيمة الحقيقية للمال تكمن في كيفية توجيهه، لا في مقدار تراكمه. ففي حين ينطلق “آدم سميث” من فضيلة السوق، وينطلق “كارل ماركس” من غضب الطبقة العاملة، فإن “ اندرو كارنيجي” ينطلق من ضمير الفرد، ولذلك فإن إعادة استكشاف فكره اليوم قد تسهم في تجاوز الانقسام التقليدي بين اليمين الاقتصادي، ويساره الثوري، والبحث عن حلول إنسانية قابلة للتطبيق، تجعل من الثروة نعمة لا نقمة، وأداة بناء تنموي لا سلاح هيمنة اجتماعية. في زمن تتصارع فيه الشعارات المتناقضة بين “السوق الحر” و”العدالة الاجتماعية” عجز الليبراليون عن تحقيق الرفاه للطبقات الوسطى وما دونها إلا عبر الاستدانة. ولم يتمكن اليساريون من تحقيق أحلام العمال بلا شقاء، وهكذا تظل الأديان والفلسفات هي الساحات التي يمكن من خلالها تجاوز هذا التنازع الثنائي. فالمال كما علمنا “القرآن الكريم” هو لله، وما نحن إلا مستخلفون فيه. والثروة كما بيّن “آدم سميث” هي مقياس للقدرة الإنتاجية، أو كما أشار “كارل ماركس” قد تكون أداة اغتراب، أو مِثل ما علّمنا “آندرو كارنيجي” يمكن أن تكون أمانة عظيمة. وحده التوازن بين تلك الرؤى، وضمن إطار مؤسساتي وأخلاقي مرن، يمكن أن يحوّل الثروة إلى طاقة للبناء والرفاه، لا أداة للهيمنة والاستغلال.