
حوار: رواية ساعي بريد الكتب ليست مجرد عمل أدبي، بل هي رحلة عاطفية هادئة، رقيقة كهمسة، تحملها خطوات رجل طيب يجوب الشوارع المرصوفة بالحجارة في بلدة ناعسة. منذ الصفحة الأولى، تستقر حرارة السرد في قلب القارئ، وتدفعه للتقرب من شخصياتٍ تبدو كما لو كانت تعيش في الجوار. اليوم، نشعر بالفخر ونحن نحاور العقل المبدع خلف هذه الرواية المؤثرة—كارستن هين، الاسم الذي برز مؤخرًا في الساحة الأدبية العربية كصوت مختلف، إنساني، وملهم، يقدم للقراء شكلاً من السرد يجمع بين الرهافة والعمق الإنساني. - لطالما ينجذب القارئ العربي للمفكرين الألمان في الفلسفة والتاريخ، لكن مؤخرًا بدأ اسمك يبرز بشكل ملحوظ في ميدان الرواية. كيف ترى تزايد حضور أعمالك بين القرّاء العرب؟ وهل وصلك صدى هذا الاهتمام بطريقة تركت أثرًا فيك؟ قد يظن المرء أن الكاتب يعلم كيف تُستقبل روايته في بلدان أخرى – لكنني بالكاد أسمع شيئًا عن ذلك. غالبًا ما تصلني فقط الفواتير من الناشرين بعد وقت طويل من النشر. لذا، فإن التعليقات التي أتلقاها عبر وسائل التواصل الاجتماعي – خاصةً على فيسبوك وإنستغرام – هي المؤشر الحقيقي الوحيد لدي لمعرفة كيف تُستقبل قصصي خارج ألمانيا خلال الأشهر وحتى السنوات الأولى. بهذه الطريقة فقط عرفت أن الرواية أصبحت من الأكثر مبيعًا في العديد من الدول، وهو أمر يسعدني دائمًا. رغم أن القصة متجذرة في الثقافة الألمانية، إلا أن بها شيئًا عالميًا. ولهذا السبب أسعدني كثيرًا تعليقك حول كيف استُقبلت الرواية في العالم العربي. - تشعر وكأن الرواية رسالة حب موجهة للكتب، مكتوبة بحبرٍ دافئ ومجلدة بعناية. متى بدأت رحلتك مع القراءة؟ ومتى شعرت أنك لم تعد تقرأ القصص فقط، بل أنك خُلقت لتكتبها؟ قبل أن أتعلم الكتابة، كنت أؤلف الأغاني وأغنيها لعائلتي – وغالبًا ما لم يكن ذلك ممتعًا لهم! بدأت أكتب الأدب في المدرسة، أولاً على شكل قصائد كنت أهديها للفتيات اللاتي أحببتهن، ثم تطور الأمر إلى القصص القصيرة والروايات. كان حلم أن أصبح كاتبًا يرافقني منذ وقت مبكر جدًا، ولم يفارقني قط. كنت دائمًا مقتنعًا أن هذا هو طريقي – بعد أن تخلّيت عن حلم الطفولة بأن أصبح رائد فضاء. أردت أن أكتب، أن أخلق عوالم وأفهم عالمي من خلال الكتابة. بقوة القصص. ولهذا السبب، أرى أن “راوي القصص” هو وصف أنسب لي من كلمة “كاتب”. - يُقال إن الكاتب الذي لا يكتب، كمحاربٍ نام أثناء المعركة. ومع ذلك، فإن الكتابة دون متعة قد تولّد نصوصًا باهتة وخاوية. كيف ترى التوازن بين الانضباط والشغف؟ بين الروتين والإلهام؟ الكتابة تتطلب بالفعل الكثير من الانضباط، الصبر، والعمل الدؤوب على النص. بالنسبة لي، لا يمكن تحقيق هذا كله إلا أن كانت الفكرة الأساسية للقصة تتوهج بداخلك. هذه الفكرة – والإيمان بها – تحملك خلال رحلة الكتابة الطويلة. عندما تملك فضولًا حقيقيًا تجاه الشخصيات والأحداث، فإن الإلهام يأتي تلقائيًا، وتفاجئ نفسك أثناء الكتابة وتسير مع أبطالك في الطريق. - يقولون إن الرواية تعكس حياة الكاتب وقد تكون سيرة ذاتية. هل تحتوي مكتبة ساعي بريد الكتب على ملامح من حياتك الشخصية؟ هل استلهمت منها مشاهد أو مشاعر معينة؟ في الواقع، تحتوي مكتبة ساعي بريد الكتب على الكثير مني، خاصة لأن الشخصيتين الرئيسيتين، كارل وشاشا، مستلهمتان من والدي وابنتي. الحب الذي أشعر به تجاههما انعكس على الشخصيات في الرواية. كان والدي يعيش في منزل مليء بالكتب، وكان يعيش فيها فعلًا. وعندما يُسأل لماذا لا يسافر، كان دائمًا يقول: “لكني أفعل! عبر كتبي! لقد زرت كل مكان.” - كل كاتب يبدأ من ظلّ كاتبٍ آخر. هل كان هناك كاتب أثر فيك بشدة؟ شخص تمنّيت أن تسير على خطاه؟ بالفعل، هناك بعض الحقيقة في ذلك، لأنك تكتب تلقائيًا بالطريقة التي أحببت بها الكتب من قبل. يستغرق الأمر وقتًا لتجد لغتك الخاصة وطريقتك في السرد. كل كتاب قرأته شكّلني بطريقة ما. في المدرسة، كانت الكلاسيكيات الألمانية، من آيشندورف وغوته إلى غراس وتوماس مان. أما على المستوى الشخصي، حين بدأت أكتب في شبابي، فقد تأثرت بج. ر. ر. تولكين، مات راف، أو شعراء مثل ماشا كاليكو وجيوكوندا بيلي. لكن لم يكن هناك أحد أردت تقليده بشكل واعٍ. عرفت منذ وقت مبكر أنني لا يمكنني أن أكتب إلا بطريقتي الخاصة. وقد فشلت فشلاً ذريعًا في محاولتي الوحيدة لتقليد فرانز كافكا – وهو فشل كان متوقعًا ومفيدًا للغاية. من المهم أن تفشل في الأشياء الصحيحة وفي الوقت المناسب. - لفت نظر القراء استخدامك الذكي لعناوين الكتب والإشارات الأدبية المخبأة داخل الرواية. بدا وكأنها قائمة قراءة سرية داخل القصة. هل كان هذا مقصودًا؟ هل كنت توجه القرّاء خفية نحو القصص الإنسانية التي شكلتك؟ في عالم السينما، تُسمّى هذه الإشارات الصغيرة “بيض عيد الفصح”، وهي رسائل خفية للقارئ. كانت متعة خاصة لي أن أضع هذه التلميحات، وأصنع طبقة خفية إضافية في الرواية. - شخصية بائع الكتب لافتة برقتها—فهو لا يقدّم ما يحب، بل ما يناسب روح القارئ. هل كانت هذه الرسالة التي أردت إيصالها؟ أن القراءة رحلة شخصية لا وصفة جاهزة؟ بالتأكيد. القراءة فعل حميمي جدًا. نحن في حوار مع الآخرين، لكن في الحقيقة نحن نحاور أنفسنا. ولهذا السبب، فإنها عملية سحرية حقًا: كيف تجدنا الكتب المناسبة في الوقت المناسب. أن يُفرض عليك كتاب هو نوع من العذاب. أما التوصية التي تأتي ممن يعرفك حقًا، فهي هدية. وهدية توصلنا ببعض. رواية ساعي بريد الكتب تتحدث عن هذا الاتصال، عن المجتمع. والكتب، أو بالأحرى القصص وحبها، يمكنها أن توصل بيننا بقوة مميزة، حتى عبر الزمن والحدود. • وصول ساشا غيّر مسار القصة بوضوح. نقاشاتها مع كارل حول الكتب “الصحيحة” كانت تحمل صراعًا فكريًا. هل كنت توجهنا نحو أن القراءة لا بد أن تتطور حتى تظل تغذينا؟ بطبيعتنا، نحن نميل للمألوف أكثر من الغريب. وهذا أمر طبيعي – لكنه في الوقت نفسه خطر لأنه يُغلق أبواب الأفكار واللغات والعوالم الجديدة أمامنا. نعم، يجب أن نقرأ ما نحبه، لأننا نرتبط به لأسبابٍ عميقة. لكن لا بد من منح فرصة لما هو خارج دائرتنا المعتادة. الفضول والانفتاح هما فضيلتان في القراءة. - أحد المشاهد اللافتة كان عندما رفض كارل إعطاء كتابٍ لامرأة تهمل كتبها. كانت لحظة هادئة، ولكنها قوية. هل كنت توصل فكرة أن الكتب ليست مجرد أشياء تُستهلك، بل رفاق يستحقون الاحترام؟ في أفضل الحالات، نعم. القصص ومن فيها من شخصيات يمكن أن يصبحوا قريبين منا، كالأصدقاء أو أفراد العائلة. يظلون معنا بعد القراءة، كصدى يتردد في وجداننا ويشكل أفكارنا وسلوكنا. إنها فكرة رومانسية عن قوة الأدب، أعلم، لكنها حقيقية. فقد غيّرت الكتب مجرى التاريخ في أكثر من مرة – حتى وإن كان الأمر يستغرق وقتًا. - يبدو والد ساشا وكأنه صوت المجتمع، السريع في إصدار الأحكام. هل رسمته ليكون انعكاسًا لرفض العالم للعلاقات النقية بين الأجيال؟ هل كنت تتحدى القيود الاجتماعية المفروضة على الاتصال الإنساني الصادق؟ العديد من العلاقات في الرواية تتخطى الحدود التقليدية – وهذا ما يجعلها جذابة جدًا. والد شاشا خائف من فقدان ابنته، والخوف مستشار سيء. لا يفهم ما يربط بين كارل وساشا، ولا يريد أن يفهم، وهذا الجهل خطر لأنه يؤدي إلى أحكام خاطئة. علينا أن نتعرف على بعضنا لنتفهم بعضنا. هو يمثل اتجاهات في المجتمع تقلقني كثيرًا. لكنني ما زلت متفائلًا. وما زلت أؤمن بالإنسان. • تنتهي الرواية بجملة تعلق في الذاكرة: “الكتب تختار قراءها، لكنها أحيانًا تحتاج لمن يدلّها عليهم.” هل كان كارل رمزًا لهذا المرشد – أمين مكتبة الروح – الذي يجمع بين الكتب والقلوب؟ أعتقد أننا جميعًا نتمنى لو كان لدينا شخص مثله – وبعضنا يعرف بائع كتب يلعب هذا الدور بالفعل. كارل وشاشا هما جسرا تواصل. كلٌ منهما يرى العالم بطريقته الخاصة، وكلا النظرتين ثمينتان. إنهما يربطان بين الكتب والناس، وبين الناس ببعضهم. القصص توصل بين البشر بطريقة فريدة. نحن نعيش في عالمٍ يزداد فيه الانعزال، لكننا نحتاج بعضنا. لسنا جزرًا منعزلة. معًا نشكل عالمًا واحدًا. - بعد هذا النجاح الجميل للرواية، نتساءل: ما الذي ينتظرنا؟ هل تعمل على رواية جديدة ذات روح مماثلة؟ في الواقع، منذ نشر رواية ساعي بريد الكتب في ألمانيا عام 2020، كتبت روايتين إضافيتين، ورواية لليافعين أعتبرها أيضًا جزءًا من هذا العالم بمعناه الواسع. ليست هذه الروايات استكمالًا مباشرًا للرواية الأولى، لكن بعض شخصياتها تظهر من حين لآخر. وستصدر رواية جديدة في الخريف. بطلها شاب يُدعى يوناس، مستلهم من كارل، ويحلم بأن يصبح كاتبًا. يلتقي بنجمة سينمائية مسنّة تروي له قصة حياتها – وكل الأكاذيب الجميلة التي بُنيت حولها. في الختام، نشكرك على إهدائنا رواية بهذه العذوبة والصدق، مليئة بأرواح لا تُنسى ككارل وساشا وبائع الكتب الهادئ. لقد ذكّرتنا أن الكتب ليست مجرد أوعية كلمات، بل قلوب نابضة تجدنا تمامًا عندما نكون في أمسّ الحاجة إليها. * كاتبة من البحرين