من غياهب النسيان إلى قمم المجد.

ممّا يُروى عن الأديب الأستاذ “محمد حسين زيدان” رحمه الله، أنه قال: “نحن أُمّة دفّانة”، أي لا نذكر مزايا مُبدعينا حتى يُغيّبهم الموت، ثم نشرع في كتابة المراثي التي تُمجّد أعمالهم وإنجازاتهم. والسؤال الذي ربما يفرض نفسه هنا هو: هل أُدباء العرب ومٌفكّريهم فقط، هُم من يتجرّعون غصص الإهمال وقِلّة الاحتفال في حياتهم؟ لعلّ من دواعي الدهشة والاستغراب، أن نعلم أن كثيرين من مشاهير العالم المُبدعين، قد عاشوا في زمنهم مغمورين، لا يلتفت إليهم أحد، ولا يحفل بهم إنسان.. فيُقيّض الله لهم من ينفض عنهم غبار النسيان، فإذا بهم أعلامٌ يُشار إليهم بالبنان. ومن هؤلاء المُبدعين على سبيل المثال، الروائية الإنجليزية “جين أوستين”، التي أمضت حياتها في عُزلة وانطواء، ومردّ ذلك إلى أنها لم تكُن تحفل بالشُّهرة من ناحية، ومن ناحية أُخرى وضعُها كامرأة، فلم يكُن المجتمع الإنجليزي ينظر في زمانها، في نهاية القرن الثامن عشر، بعين الارتياح إلى اشتغال المرأة بالمسائل العامّة، فضلاً عن أن كتابة القصّة لم يكُن يُنظر إليها نظرة تقدير واعتبار، ولذلك كانت “جين أوستين” تُصدر قصصها غفلاً من اسمها. وهي على كلّ حال لم يكُن في مقدورها أن تكتب الرواية، لو لم يكن هناك من يحفل بها، ويقرأ لها، ويطلب المزيد من كتاباتها. ولكن شتّان بين احتفال وتقدير في دائرة ٍ ومحيط محدود، وبين شُهرة عريضة تطبق الآفاق، وتطير في الخافقين، كتلك التي حظيَتْ بها “جين” بعد وفاتها بعشرات السنين. وكان أول كتاباتها رواية “انطباعات أولى”، وقد كتب أخوها إلى أحد الناشرين يعرض عليه نشرها، ولكن الناشر لم يجد في العرض شيئاً يٌغري أو يضمن له كسباً، فسارع بالرفض. وبعد ذلك بستّة عشر عاماً، كتبت “جين أوستين” روايتها الرائعة “الكبرياء والهوى، وباعت حقوق نشرها لقاء عشرة جنيهات فقط، وهي اليوم مبعث فخر للأدب الروائي الإنجليزي، وقد قيل أن رئيس الوزراء البريطاني “بنجامين دزرائيلي” قرأها أكثر من عشر مرّات! لقد بدأت “جين” الكتابة في سِنّ مبكّرة، وكانت تحرص على أن يكون عملها طيّ الكتمان، فلا يطّلع عليه أحد خارج محيط الأسرة,, وبعد خمسين عاماً، أفاق الناس على حقيقتها، وعرفوا لها حقّ قدرها. لقد احتفلتْ “إنجلترا” بمرور مائتي عام على ميلاد “جين أوستين” في عام 1975، وزيّنتْ طوابع البريد بمَشاهد من قصصها، وترتفع اليوم هذه الكاتبة إلى مقام شاعر إنجلترا الوطني “وليم شكسبير”، ويرفعها إلى هذا المقام أو قريباً منه شخصيات لهم في الفكر والأدب مكانة محمودة، منهم الشاعر “ألفريد تينيسون” الذي اختار لها المرتبة الثانية بعد “شكسبير” في الأهمية والتقدير. وإذا كانت “جين أوستين” على ما عرفنا من استهانتها بالشُّهرة وقِلّة الاهتمام بها، فقد كان الكاتب الفرنسي “هنري ستندال” على النقيض من ذلك، فقد ظلّ طوال حياته يسعى إلى الشُهرة والمجد ويجتهد في طلبهما، ولكنه لم يظفر يشيء منهما قَطّ في حياته، ولم يتحقّق له ما أراد إلا بعد أن ووري الثرى بسنوات عديدة. لم يتّخذ “ستندال” من الكتابة حِرفة، ولكنه كذلك لم ينقطع أبداً عنها، فقد ثابر على كتابة يومياته، وبدأ بكتابة سيرة ذاتية لم يُكملها، ولم تُدرّ كتاباته عليه مالاً، كما أنها لم تُحقّق له شُهرة. وقد كان من المُحتمل أن يظلّ “ستندال” مُتخبّطاً في دياجير النسيان بعد وفاته، كما عاش في طيّ الإهمال في حياته، لولا أن كتاباته شدّتْ إنتباه أستاذ جامعي، فأخذ على عاتقه الاهتمام به وإلقاء المحاضرات عنه.. وكان من بين تلامذته من أُتيح له أن يكون ذا شُهرةٍ في مجال الأدب، فكتبوا عنه مقالاتٍ رفعوا بها اسمه من حضيض الخمول إلى قِمّة الانتشار، حتى أن الكاتب الفرنسي “أندريه جيْد” الحاصل على جائزة نوبل، اعتبره مُبتدع الرواية السيكولوجية. ثم استقرّ الرأي بعد ذلك، على أن “ستندال” هو أحد كبار روائيّي فرنسا في القرن التاسع عشر، واعتُبرتْ روايته “الأحمر والأسود” واحدة من أعظم الروايات، حتى أن الكاتب الإنجليزي “سومرست موم” ٌقال عنها: “أنها ما زالت من أروع الروايات التي كُتبتْ، والقاريء الذي يُطالعها، إنما يمرّ بتجربةٍ فريدة”. أما على الشاطيء الآخر من المحيط الأطلسي، فقد قوبلتْ كتابات الأمريكي “هيرمان ميلفيل” المُبكّرة بالاستحسان والتشجيع، مما كان له الأثر العميق للمُضيّ قُدُماً في مهنة الكتابة. فكتب روايته العظيمة “الحوت الأبيض” أو “موبي ديك”، فلم تُعجب أحداً! وأعقبتها رواية “بيير”، وكان مصيرها انصراف الناس عنها وازدراءهم لها، ولم يجنِ “ميلفيل” من وراء ذلك إلا النزر اليسير من المال، واضطُرّ لكي يُقيم أوده إلى قبول وظيفةٍ مُتواضعة في مصلحة الجمارك، أمضى فيها بقية حياته، ثم مات نسياً منسيّاً. وما أغرب ما يكون بعد ذلك، حين يستبين أن رواية “موبي ديك” كانت نقلةً نوعية واسعة المدى، بالقياس إلى ما كتبه “ميلفيل” في بواكير حياته، فقد نقلته من كاتب مثلهُ كثيرون، إلى كاتبٍ يعزّ له النظير. وتٌصبح هذه الرواية قمّة أعماله التي تضعه في مصافّ كبار الروائيين، ويُصبح بطل الرواية على درجة من العظَمة والشموخ، لا يدانيه فيها إلا شخوص تراجيديا الإغريق، الذين خلّدتهم أعمالهم على مرّ العصور وتوالي الأحقاب!