آفاق التجديد في شعر بدر بن عبد المحسن..

التكامل الجمالي.. الرمزية وتجلياتها.

في دهشة اشتعال الذاكرة، وعزف أوتار مفردات اللوعة، تطل علينا ذكرى رحيل الأمير الشاعر «بدر بن عبد المحسن» – رحمه الله تعالى - الكاريزما الآسرة، المكانة الشعرية الأكثر تألقا وتفردا وقامة، بمعايير الجمال والشعر واللغة والزعامة، افتقدناه كوطني خالص، يرتب الكلمات لصهيل الصحراء، ويؤرخ لصليل السيوف في أيامنا الوطنية البيضاء، ويحيلها إلى فيض روحي، وترف جمالي، وعطور ثمينة ..... «وفي الليلة «البيضاء» يفتقد البدر». يشكل الوعي والنضج الفكري والتدفق الشعوري ملامح تشد مفاصل القصيدة، ويعمق «البدر» مـن خلالهـا بصمته على سمات الهوية الوطنية في نصوصه الشعرية، باعتباره من رواد التنوير والوعي المستنير، والمتفرد بالكمال المطلق المتجاوز للسائد والمألوف، تحركت بداخله مُعظم الحالات الشعرية، صنعها بموهبة استثنائية، وغنائية فائضة، التحم بتفاصيلنا الصغيرة التحاما سحريا، وابتعد عن الذاتية وقداسة التعالي، فكان رمزاً شعريا متواضعا، منتميا للحشود الجمالية القريبة من كل مستويات التلقي، بعفوية طفل معطر برائحة الفصول، وطقوس الحياة. «البدر» وكفى، لا يحتاج لألقاب مفخمة وأسماء مستعارة، اسمه لوحده يؤرخ لزمانه ولأزمنة تالية، خلق لغته وأسلوبه وطريقته وحداثته التعبيرية المتميزة بوسامة تشبهه ويشبهها تستهويه ويستهويها، أجزلها رخاء وبذخا، وصيرورة وجود. ومما يحسب له أنه أول شاعر سعودي حقيقي يضع اللبنات نحو الكمال الجمالي لشعر الحداثة، وكأول من أطر قوانينها وسننها ميلادًا ونشأة بنكهة سعودية، وصوغ مفهوم جديد لبنائها، جعلت منه حقلاً بالتنويع وتوليد المعنى، ولم يُخضع قصيدته لمقاييس النقاد ونظرياتهم، مما جعله في منأى عن هتك أسراره وتجلياته وإشراقاته، ومنظومته الرمزية، ومنجزه الإبداعي، هذا أولاً، أو لأن طبيعة شعره في صياغته وصناعته لم تدخل في شغلهم واهتماماتهم وتطبيقاتهم النظرية.. وهذا ثانيا، لكنهم على آخره فطنوا له وتذكروه وقرأوه بعيون آسفة. «البدر» أسس لنفسه طرائق وتأويلات ومنزلة رمزية حداثيّة متفردة لا حدود لها، فلم يقيدها أو يختزلها على شكل واحد، بل جعل قصيدته تتجاوز المرئي نحو اللامرئي، ويرحلها إلى عالم جديد غرائبي، قائم على توظيف الصور المتشابكة والمتنافرة، وخرج عن الماضوي بهدم النمطية المألوفة والأعراف والتقاليد السائدة للقصيدة، بجعل إيقاع المفردة أوسع من العروض، وبإعادة بناء لغة تحتفظ بأسرارها، وتمارس في ذات الوقت المطلق المنفتح على التأويلي والاحتمالي والفجائي، وفي حضور وزن يتموج بحسب الصورة وتقنياتها الفنية، وحركة الكلمات بتداخلها وتضادها وتدفقها الدلالي والإيحائي، وبدلالات منفتحة على المنسي في ذاكرة الأشياء ببعد رؤيوي. ونقاء تعبيري، وتموسق لفظي، مما فتح لنصوصه آفاقا جديدة مغرية، لخلق متعة جمالية موازية. وفيما يلي أحاول قراءة أربعة مطالع لأربع قصائد بمنهج أسلوبي جاعلا مما تقدم منطلقا أساسيا: يا طفلة تحت المطر.. تركض واتبعها بنظر تركض تبي الباب البعيد.. وتضحك على الثوب الجديد ابتل.. وابتل الشعر. ثمة شيء ما يشدّني دائما عند سماع هذه الكلمات المكتظة بعناصر الطبيعة، والمغناة بصوت نكهة الروح «طلال مداح» - رحمه الله- حيث تضافر الخيال، والموسـيقى، واللغة في بنائها. كنت أتساءل، ماذا يريد بدر بن عبدالمحسن من مدلولات هذه المحسوسات بوصفها وحدة لغوية، وكيف استطاع بذكاء مذهل تعويم الرمز داخل نسيج النص، وأن يثير لذة التساؤل ومتعة الكشف عن المخبوء؟. أبدا لم يكتبها هكذا لتكون منظومة صوتية، وثراء حركيا، بل كتبها وفق توجهاته التحديثية، وعلى اعتبار أن الخيال الطفولي فتنة جمالية، وطاقة خلاقة، وضوء لرؤى شعرية عميقة، وذلك بإعادة بناء اللغة وفعلها، وترتيب مثيرات الرشاقة والدهشة، ليبني بها مشهدا دراميا لحفلة كونية. « الطفولة»، أنثى الحياة دلالة للتوسع والامتداد، امتزجت بالأرض، يتخطى بها العالم الظاهر إلى مسار ايحائي، وانعتاق إلى فضاءات رحبة حرر بها النص، وارتقى لسمو السماء بعيدًا عن الأرض المشبعة بالتعب وأشكال التحالفات المؤسفة. وبعيدا عن قراءة النص كتموج سطحي حركي وشكلاني مراوغ جاء بتناغم المفردات ومهارة التوليف، والاحتشاد اللفظي: «طفلة، المطر، تركض، نظر، تضحك، ابتل، الباب البعيد ...»، علينا أن نستقرئ دلالات ذلك المشهد الإبداعي بطريقة مختلفة، لأنه إبداعي في مجمله وخُلِق لقراءات متعددة، حتى لو فقدت القصيدة مثيرها الغنائي الآسر بتلك القراءات، فالشاعر في هذا النص وبأفقه المعرفي يبني عالماً وجوديا خياليا تنويريا يهدف من ورائه إلى تغيير خارطة الوعي المجتمعي ويتسلى بحياكة انسان وصناعة عقل في نسق شامل. ومع أن مفردات النص مأنوسة، إلا أن لها معاني توليدية اتخذت في التركيب انزياحا دلاليا باطنيا يعولم لعوالم لا مرئية: «لو رميتي» التمني :»المطر» :الحياة والميلاد والخصوبة «الاخضرار» : راحة النظر السعادة والجنان «اتبعها بنظر» الحفظ من شظايا لعبة القدر، إذا هو يحتفي بميلاد جديد، يلون له الكون بدهشة وخيالات طفلة توحدت بذات الشاعر، شكّل بها ملامح مشروع المستقبل الذي استوطن عقر قلبه وعقله، ووظف الطفولة كأسمى معنى متسيد للعذوبة والحضور، طفولة تلحفت ببياض البرد، ونشرت شالها على خاصرة السماء، وتبلل شعرها بماء الوجود، لينبت العشب ويخضر الجليد، كمظهر لدورة الحياة وتجددها، جعلها سماوية كمظهر آخر من مظاهر العلو ، ترتب الفصول وتمنحها بهجة ونشوة، وتعيد تكوين الطبيعة بقواها الكامنة، جعلها قيمة جمالية بـ»الثوب الجديد» كناية عن الانطلاق في حقول الحياة، براءة وخصوبة بقاء، ترسم بخيالها عناصر الطبيعة، وتحيك عوالم جديدة رهيفة، تركض وتمتد أكثر وأكثر لتكون نبوءة أمل لأزمنة تالية، وتعويذة عبور لإطار الجغرافيا، وتأشيرة مرور للغد... «للباب البعيد» . أرفض المسافة والسور والباب والحارس آه أنا الجالس ورى ظهر النهار، ينفض غبار ذكرى أرفض يكون الانتظار بكرة. فاجأنا البدر بهذا النص وهذا الاستهلال المتشنج بالرفض، بلغة انفعالية تحفز المتلقي للدخول إلى عالمه بشكل مختلف. هذه الدخلة المفاجئة جاءت مزيجا بين الحراك الأدائي والايقاع الموسيقي الداخلي المبتكر، والانفتاح الدلالي المدهش الذي ينزاح بلغته عن المألوف إلى اللامرئي، وليخلق تجربة حداثية تمردت على المفاهيم الهشّة، ويفكك حلقات راهنه الزمني المستحكم، في نص لم يكن لهوا بالكلمات التي اتخذت فيه أدوارا غير وظيفتها الدلالية تقوم على الانفتاح المطلق، ليكون لها إبعاد تجاوزت إطار القصيدة إلى تمرير أفكاره وتصوراته ومواقفه، وإعادة تشفير الواقع في محاولة انقلابية واعية. اختفت الغنائية فيه تحت ستار سميك، وظف فيها المرأة حبيبته وملهمته، لما لها من أثَّر في وِجدانه ولسمو الرؤية الحسية لها في التخيل والمخيال ،وليعدل بها عن المقصود المباشر إلى أفكاره الحداثية المتقدمة، وربطه المتقن بين صورة الحبيبة والحداثة لاتساع رمزيتها وتدفقها الشعوري، وباعتبارها كائنا متحركا ونسيجاً بنائياً ورمزا للبقاء ومتضادات الحياة في مختلف تجلياتها وتمظهراتها، ولما تعانيه المرأة من العزلة وعنف الإقصاء، والبحث عن مخرج لتحقيق ذاتها من السطوة الذكورية والعشائرية والتأويلات السائدة في ذلك الوقت، فكان حضور المرأة الطاغي الذي اتكأ عليه وحمله أعباء هم تخطي وتجاوز المرحلة وهندسة شروطه و كينونته، ولأنها أيضا رمز متخف اسطوري، استوطنت قاع الذاكرة، بوصفها بعدا انسانيا وبعداً جماعياً، ورؤية معرفية وكقيمة تنويرية رشيقة وأليفة . في هذه القصيدة نفاجأ برائحة لطيفة لحداثة شعرية تكررت في شعر «البدر» بطرق مختلفة، ولكن لم تكن بهذه الدهشة والافتنان. لم يحتفِ في هذا النص بالقافية، بل حررها من إرثها ورتابتها المضنية، وتخطى النظام التفعيلي وأباطيله في معمارية النص، وكأنه يأنس لفضاءات إيقاعية مفتوحة ولمدلول رؤيوي مخبوء. البنى الفكرية فيه شحنت بطاقة ابتكارية جاءت كلها بامتياز فكري وبعفو الخاطر، تقوم على فكرة التمرد والرفض للثابت التقليدي بنفض الغبار وبما يعنيه من تعكير رؤية المرئيات، وتفكيك براويز الوهم، ونفاق الصور المزيفة، وتلاشي الأبواب والأسوار التي تحول دون أفق الارتقاء، وبناء قيم التحول على أنقاضه. «يا صاحبي ما في الهوى راحة، أحذر تبيع القلب لجراحه «. للجملة الشعرية قيمة خلاقة، باستعادة تمثيل وتجسيد تفاصيل اليومي، ببساطة المفردة، وبكلمات مألوفة من العامية المحكيّة للجمل، التي ولّفها «البدر» من رحم الحياة، ببراعته النسقية في التشكيل والبناء والتلاحم، اكتسبت حركيتها من سياق الموروث كهوية وطنية، وشحنها بإيماءات جديدة،»الميتاشعري» كاستجابة فلسفية ومغريات جمالية، منظمة للعلائق والأنساق اللغوية، يستلهمها ‏ويعيد بناءها وإنتاجها أفقيا وعموديا مع غياب الصورة الكلاسيكية الصلبة في ذهنيتة، ويستمدها أيضا من قوة كينونته «الأنطولوجي والميثولوجي» التي تتمركز في ذاكرته، ذاكرة البيئة السعودية، وأيضا مما جاء في التراث الفصيح كمصدر حاضر. من أبرز تجليات الحداثة التي وجدت طريقا لها «التناص»؛ التفاعل والتلاقي لتجميل النص الشعري، يستدعي الشاعر «الصاحب» ويستعيد التراث ويمتلكه في قصيدته الأشهر إدهاشا وسموقاً إبداعيا «يا صاحبي ما في الهوى راحة» وهو المثال الأقرب للتواشج النصي والحبل السري كشجرة نسب ممتدة بين الثقافتين العربيتين الأصيلتين، الأمير البدر «الحفيد» يجسد ويجدد علاقته مع حكمة «الجد» الملك الضليل: «بَكى صاحِبي لَمّا رَأى الدَربَ دونَنا، وَأَيقَنَ أَنّا لاحِقانَ بقيصرا «. أو كما جاء في الشعر النبطي كمصدر ثانٍ، والبيت للأمير محمد السديري مصرحا باسم الصاحب: يا عمير زاد الوجد يا عمير ابنخاك، وش حيلة اللي باح صبره ويدعيك . أما المصدر الثالث فقد استمده من أفواه العامة، المادة الأولية البسيطة للكلام، المتواضعة وجدانيا، والأكثر شيوعا وتداولا بين البسطاء. والتي استند عليها في هندسة تكاملية لقصائده، وبناء إدراكات وإحساسات ووضع تصورات وبناء لبنات فكرية. لا بأس أن تتخيل معي جداويا يسير في أزقة جدة القديمة بين بيتي نصيف وباعشن، متجها لمركاز بيت البترجي عمامته على كتفه وهو يردد: «يا صاحبي ما في الهوى راحة « هذا هو «البدر» باختصار، يوقد شعلة الكلمة، ويشيد عمارة النص، ويلتقط سرد الحكاية من نثريات الحياة بألفة ضافية. «إلى من يهمَّها أمري.. إلى من.. رجاءً إلى متى صبْري.. رجاءً.. أنا لن أشتكي همِّي لغيرك.. أنا لنْ.. « رسالة.. تصرخ بهمِّي.. إلى من.. غواية التوسل وقلق السؤال، الدهشة الأولى التي بُني عليها التشكيل الاستهلالي كمثيرٍ مغرٍ وبراعة نسقية في هندسة النص، وبحرفنة انسيابية اختزل فيهما ثقافة عميقة كقيمة جمالية عليا، انتقل للتعالق النصي مع السائر المعاش للناس في البلاد واستثارة دلالاته، وهم يقدمون لشكاواهم في لائحة الاعتراض: «إلى من يهمه الأمر» ،ليتلقط هذه العبارة من حراك المشهد المرتبط بنسق اجتماعي، لينقلها كما هي بذات الترتيب اللفظي بذات المعنى، يحيلها إلى نسق شعري جمالي كجذب وشد انتباه مفاجئ، يؤرخ ويحفظ لهذه الجملة اعتباريتها كدستور في ذاكرة الطيبين، وحتى فيما تلاها من جمل الرجاء والطلب كتقنية وظفت بعبقرية. أما الرسالة، حاضنة الشوق، ومتكأ الحنين رسالة البريد السري للمحبين، حين يظل الصوت وحيدًا في زمن أصم - زمان الصمت وذبول الصرخة.. في وادي لا صدى يوصل - يرسم المشهد برهافة إحساس وفرادة. هذه الجمل كاملة ببنيتها ولفظها ومعناها انتقلت من دلالة إلى دلالة أخرى في حالة تلاحم، وتمتين صلات، وانتماء مطلق، ومنتوج جيني سعودي يدل على وله ونبض روحي محموم بالوطني الخالص. ومرت سنة.. على فراقك على صوتك.. واشواقك رحم الله الأمير الشاعر الأنيق بدر بن عبد المحسن، قيمة في الحضور، وقيمة في الغياب، يحزننا أنه لم يعد يكتب، ولكن سيبقى في ذاكرتنا وذاكرة الأجيال ما دامت شمس الحياة.