الشيخ عبدالعزيز التويجري بين اليمامة والدهناء ..
الكتاب الذي يريدك أن تكون نداً للمتنبي !

قبل أن يُفتح الغلاف… قبل أن تُقلّب الصفحة الأولى… هناك صهيلٌ خافت يخرج من الغلاف نفسه. وستشعر أن هذا الكتاب لا يريد أن يُقرأ، بل أن يُوقَّر. فغلافه: فرسان يمتطون خيولًا تحمل ذاكرة. تسابق الريح… و تجرُّ وراءها ظلَّ المتنبي، وكأن كل حافرٍ يكتب بيتًا لم يُقال بعد،ويبعث في الأرض صهيلًا فهي ليست خيولًا عابرة، بل أرواحٌ تمشي على هيئة صبر شاعر ،ووجع حالم، ومجدٍ لا يباع ولا يشترى اللون؟ عاصفٌ بهدوء، كأنه غبار مجد قديم لم يُمسَح عن كتف التاريخ. فيه لون الرمل ، وصمت يشبه ما قبل المعركة. كأنك تمسك بزمام رحلة… لا تعرف إن كنت ستصل فيها إلى شاعر، أم إلى نفسك. الورق؟ هادئ، سميك، يشبه صمت النُبلاء. حجم الكتاب؟ كتاب لا يُفاجئك بحجمه، بل بوقاره، كأنه لا يكتفي بأن يُقرأ… بل يفرض عليك طقسًا: أن تغسـل فكرتك، وتفتح قلبك، وتدخل على مهل. العنوان وحده يُوحي أن هناك شيئًا لم يكتمل بعد: “في أثر المتنبي… بين اليمامة والدهناء” وكأن المؤلف يفتح أمامك دربًا، ويطلب منك أن تكمله… بين اليمامة والدهناء… ليست مسافة، بل فلسفة فهو لم يكن يتحدث عن مكان، بل عن رمزين: اليمامة: حيث الماء والخصب والحنين القديم لحضارات لا تُنسى… والدهناء: حيث القفر، والاختبار، والمشي وحيدًا في طرقٍ لا ترحم من لا يمتلك فكرًا يمتدّ كالرمل اتساعًا. والمتنبي يمشي معك من الخصب إلى الجدب، من الأسئلة السائلة… إلى الإجابات اليابسة. ومن المجد الذي يُخطب… إلى المجد الذي يُحتمَل. وسؤال لا يزال يتردّد… بين كل سطرين هل المتنبي كتب لينقذ نفسه؟ أم ليكشف زيف من حوله؟ هل الشعر سلاح؟ أم صلاة؟ وهل التويجري كان يكتب عن المتنبي… أم عن كل من تشظّى بين الكلمة والموقف؟ صفحات الكتاب رسائل ملفوفة من زمنٍ قديم… زمنٍ كُتب فيه المعنى بالبصيرة الكتاب صادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون، يقع في نحو ٣٠٠ صفحة من القطع المتوسط. وفي كل ورقة، شظايا من الفكر، ظلال من التاريخ، وشيءٌ منك لا تدري كيف وصل إلى هناك. الرحلة لا تبدأ من المتنبي،بل من التويجري، الذي لا يكتب دراسة عن شاعر، بل يحاور ظله. ويسألك من البداية: هل المجد مجرد أبيات؟ أم مشيٌ في الرمل بلا ماء؟ التويجري لا يشرح بيتًا، ولا يؤرّخ عصرًا،بل يكتب وثيقةً لزمنٍ تاهت فيه البوصلة. فلم يكن يحلل الأبيات كناقد، بل يتبعها كمُحبٍّ قلق، كمن يعرف أن كل بيتٍ عظيم يخفي وجعًا أعمق. لذلك لا يُهديك إجابة، بل يُجرّك نحو السؤال الذي كنتَ تتهرّب من مواجهته كلما اشتدّ فيك الليل. فإن كنتَ ممن يُجيدون الهرب من وجوههم، لا تفتحه… لانه يكتب عن فكرة. عن وهم العظمة، عن إغواء الحضور، عن وهج القصيدة حين تكون خلاصًا. عن العزلة بين كثبان المجد،وعن السؤال المُعلَّق في كل بيت. وحين تمسك الكتاب، لا تفتحه كما تُفتح الكتب. بل كما يُفتح جرحٌ قديم كما تُفتح الرسائل التي لم تصل، كما لو كنتَ تتنفّس من بين السطور لا من رئتيك، اقرأه كما يغمض العاشق عينيه على طيف من يحب، لا لينساه، بل ليُطيل بقاءه. اقرأه فـ الحرف الأول منه… سيوقظ فيك آلاف الليالي التي ظننتَ أنك تجاوزتها. فكل بيتٍ فيه يشبه اعترافًا لم تجرؤ على قوله! لغتة تشبه الرمل… ناعمة في ظاهرها، قاسية في عمقها هو لا يُزخرف، لا يُجامل، حين يتحدث عن المجد، لا يمدح. بل يقول: المجد اختبار… لا جائزة. لغة الكتاب تنحت الفكرة كما تُنحت القبور هي ليست أسلوبًا، بل اختبارًا. لا يوجد تكلّف بل سطور تسير كما تمشي الإبل في قيظ الدهناء: بصبر، وبأثرٍ لا يُمحى. كل خطوة في الصفحة… تعني شيئًا، وتحمل سؤالًا، وفي كل تأمل، يبدو المتنبي وكأنه لا يخاطب أميره، بل يخاطبنا. وفي كل تحليل، كأنه لا يشرح قصيدة، بل يحاكم جيلًا. ان من يقرأ التويجري في هذا الكتاب، لا يشعر أنه أمام ناقد، ولا أديب، بل أمام حكيم يمسك بجذع الفكرة، ويهزّه حتى تتساقط منه الإجابات… أو الوهم. هو لا يُعلّق على شعر المتنبي، بل يزنه، يحاكمه، يختبره، ثم يسألك أنت: هل كنت ستقول ما قاله، لو عشت وجعه؟ وهل لو خُذلت في لحظة انتصار، كنت ستكتب بيتًا أم تصمت إلى الأبد؟ في يد التويجري، كل بيت هو امتحانٌ للأمانة… لا للإعجاب. يأتي به و يضعه أمامك كما لم تراه من قبل: فيطرح أسئلة… تُشعل الداخل هل كان المتنبي يكتب ليبقى؟ أم ليُشفى؟ وهل في داخلك شاعر… ينتظر جرحًا ناضجًا ليبدأ ؟! القصيدة عند التويجري ليست نصًا، بل أثرًا. لا تبقى في الذاكرة، بل تُنجب فيك شيئًا لا يعود كما كان. ويكاد يقول دون أن يقول: “كل بيت شعر… هو جرحٌ لم تكتبه الحياة، فكتبناه نحن.” اخيرا سيبقى الكتاب: أثر لا يُمحى… ففي الختام… لا تشعر أنك أنهيت القراءة، بل كأنك خرجت من خيمةٍ فكّكها صاحبها فجأة، وتركك في العراء، تنظر إلى الرمل وتتساءل: “ماذا حدث؟ من أنا الآن؟ وأين كنت قبل أن أمشي في هذا الأثر؟” التويجري، في هذا العمل، لا يُدرّسك ديوان المتنبي، بل يدرّبك على أن تكون ندًّا له، إن استطعت. لمن كُتب هذا الكتاب؟ لم يُكتب للأدباء فقط، ولا للمهتمين بالشعر، بل للذين يشعرون أن شيئًا فيهم لا يتماهى مع هذا العالم… ولم يجدوا لذلك اسمًا. هو لكل من مشى طويلًا في صحراء نفسه، وسأل: “هل أنا من زمنٍ خطأ؟ أم أن الزمن هو من تأخّر عني؟” فهذا الكتاب… تذكرة عبور، لا شهادة قراءة هو لا يمنحك معلومات، بل يمنحك امتحانًا: هل تجرؤ أن ترى الشعر وهو يعرّيك؟ في أثر المتنبي… هو في أثرك أيضًا لعلّ التويجري كتبه لتبحث فيه عن المتنبي، لكنّ الأعظم أنه كتبه لتجد فيه نفسك، نفسك التي خُذلت، ثم تماسكت، التي حلمت، ثم فُجعت، التي كُسرت، ولم تفرّط بكرامتها. وأنت… حين تغلق هذا الكتاب، لا تُغلقه بل اُتركه مائلًا على الطاولة، كي يراك وأنت تمرّ بجانبه ذات قلق، فيقول لك… من بين الغلافين: “ما المجد… إن لم يُرهقك؟ وما الشعر… إن لم يُنقذك من نفسك؟ وما الكتاب… إن لم يُشبه ندبةً على قلبك؟”