د. سعد البازعي يكتب عن « عاشقات الشرق »*

المستشرقات: حين تختلف القراءة

أشير بهذا العنوان إلى ظاهرة طالما أدهشتني، أقصد ظاهرة النساء اللاتي شغلن بدراسة الشرق العربي الإسلامي وترجمن عنه، النساء المستشرقات اللاتي وجدت أنّ وصفهنّ بـ “عاشقات الشرق” ليس من المبالغة من منطلق أنّ علاقتهنبالعالم الإسلامي عموماً والعربي على وجه الخصوص علاقة اتسمت في مجملها بالحميمية القريبة من العشق والتي دفعتهن إلى اتخاذ مواقف ليست من السمات البارزة في علاقة الاستشراق الذكوري بهذا الجزء من العالم (أقول في مجملها لأنّ العلاقة لا تخلو من بعض علامات استفهام). فمع أن من المستشرقين مَنْ طوّروا علاقات حميميّة ومتماهيّة إلى حدّ مدهش بالعرب والتراث الإسلامي (ماسينيون مثلاً)، فإنّ السمة الغالبة على المستشرقين هي بخلاف تلك الغالبة على المستشرقات أي سمة الجفاف العلمي أو التحيّز في كثير من الأحيان، كما أفاض إدوارد سعيد في تحليله ونقده الشهير. ولعلّ من قرأ كتاب سعيد وهم كثر بالطبع، يتذكرون أن الرجل لم يشر إلى السيّدات إشارة تذكر. بل إنّ النساء يشكلن غياباً واضحاً قد يبرّره في نظر البعض قلة عددهن، لكن هناك من سيرى أن السبب غير ذلك. فالمستشرقات يخرجن خروجاً شديد الوضوح على الأنساق المتحيّزة والعدوانية التي رسمها سعيد في دراسته. أذكر أنني التقيت إحدى أولئك المستشرقات، وكانت حينها في مقتبل نشاطها البحثي، وذلك في مؤتمر جمعيّة اللغة الحديثة بشيكاغو، وكنت حينها طالب دراسات عليا فما إن علمت أنني أدرس جانباً من جوانب الاستشراق حتى بادرت بإرسال نسخة من دراسة كانت ما تزال تطوّرها حول علاقة أوروبا بالعالم الإسلامي في العصور الوسطى. وكان ممّا استرعى انتباهي النقد الذي وجهته الباحثة، وهي ماريا روزا مینوكال لسعيد في كتابه الاستشراق الذي كان قد ظهر قبل فترة قصيرة. فقد اتهمت الباحثة سعيد بتقديم صورة متحيّزة للاستشراق نفسه، متحيّزة ليس ضدّ المرأة الباحثة من أمثالها وإنما ضد الاستشراق الإسباني الذي كانت تنضوي تحت لوائه والاستشراق الألماني. ومع أن سعيد يستثني ذلكما الفرعين في مقدّمة بحثه من النتائج التي يتوصل إليها، فإنّ الاستثناء يظلّ مساحة فراغ يصعب تبريرها لضخامة المنجز الإسباني والألماني ولأنّ غياب ذلك المنجز يثير أسئلة مهمة حول مشروعية الإشارة إلى الاستشراق على وجه العموم في عنوان الكتاب وفي أطروحاته الأساسية. ما لم تشر إليه مينوكال ووجدت شخصياً ما يبرّر إثارته فيما بعد هو غياب المرأة المستشرقة، الغياب الذي يلفت النظر كما أشرت قبل قليل بحجم تعاطفه مع موضوع دراسته. والتعاطف هنا يصل فعلاً إلى حدّ العشق في كثير من الحالات. وبالطبع فإنّ من الخطأ الوقوع مرة أخرى في التعميم بالقول إنّ كل المستشرقات أو المستعربات بعيدات عن التحيّز الاستشراقي الذي يجده سعيد لدى الباحثين من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. لكن حجم التعاطف وكثرة أمثلته مما يبرّر القول بأنه فعلاً سمة لعلاقة المرأة الغربية الباحثة في ثقافات الشرق . الأمثلة على ذلك النشاط كثيرة ومنها تلك التي أشرت إليها، أي مينوكال، الباحثة الأمريكية الكوبية الأصل والأستاذة في جامعة ييل التي أصدرت عدداً من الكتب تأتي في طليعتها دراستان حول الشرق العربي الإسلامي في علاقته بأوروبا. الكتاب الأول هو “الدور العربي في التاريخ الأدبي الوسطوي : تراث منسي” وهو كما يتضح من العنوان دراسة شاملة لتاريخ العلاقات العربية الأوروبية في العصور الوسطى تؤكد أهمية الوعي بالمكوّن العربي الإسلامي في تشكل أوروبا الأدبي، بينما الثاني يحمل عنواناً أكثر استثارة للانتباه هو “زينة العالم”، ويتبين أنّ المؤلّفة قصدت بالعبارة الأندلس. وفي حين ترجم الكتاب الأول إلى العربية على يد الباحث السعودي د. صالح الغامدي من جامعة الملك سعود فما يزال الثاني حسب علمي غير مترجم، علماً بأنه لا يقل عن سابقه لا في الأهمية ولا في حجم الإعجاب الذي حمل الباحثة الأمريكية على البحث والكتابة، فهي ما تزال حميمة الصلة بموضوع بحثها . من الأطروحات المهمة التي تدافع عنها مينوكال ما يتصل بتأثير الشعر العربي فيما يعرف بشعر التروبادور في الأدب الأوروبي الوسطوي، أي الشعر الذي أنتجه شعراء جوّالون ظهروا في القرن الثاني عشر وكانوا يسيرون في مدن إسبانيا وفرنسا ينشدون القصائد مصحوبة بالموسيقى. تقول مينوكال إنّ من الواضح أنّ كلمة “تروبادور” تعود إلى كلمة “طرب” العربيّة، وتقف متعجّبة من تحيّز الباحثين الغربيين المعنيين بدراسة أدب العصور الوسطى ونفيهم المتكرّر لمثل ذلك الربط، حيث ظلّوا يصرّون على ربطه بالتجوال من فعل «تروفير» الفرنسي ليشار إلى أولئك الشعراء بوصفهم جوالين بدلاً من أن يقال إنّهم شعراء مطربون أو طربيون. ولا تتردّد مينوكال في النهاية في اتهام أولئك الباحثين من مؤرّخين ونقاداً بالتحيز الثقافي الذي لا يخلو من عنصرية وعداء للحضور العربي الحضاري في تاريخ أوروبا. في كتابها الثاني تواصل المستعربة الأمريكية دراستها للعلاقة الحضاريّة التي ربطت أوروبا بالعرب والمسلمين مكثفة النظر هذه المرّة إلى الأندلس وتراثها الذي تلقفته أوروبا وهضمته. ومما يلفت النظر في هذا الكتاب الثاني أنّ المقدّمة كتبها الناقد الأمريكي الشهير هارولد بلوم، الأستاذ في جامعة ييل والذي يعود إلى أصل يهودي. ويتضح من مقدّمة بلوم أنّه وجد نفسه معنيّاً بمبحث الكتاب من حيث أن إسبانيا في العهد العربي الإسلامي حملت أيضاً موروثاً عبريّاً وأن اليهود يتذكرون أنهم في ظلال المسلمين شهدوا واحداً من أزهى عصورهم. ففي عهد التسامح الإسلامي نعم اليهود كما نعم المسيحيون في الأندلس بحريات لم يعرفوها في عصور سابقة في أماكن أخرى من أوروبا في ذلك العصر. بل إن أحد اليهود، كما نعرف تاريخياً، بلغ في الدولة الإسلامية منصباً مقابلاً لما يعرف اليوم برئيس الوزراء. تستعيد مينوكال ذلك التاريخ في كتاب يجده بلوم أقرب إلى العشق منه إلى البحث : “كتاب مينوكال قصيدة عشق موجّهة لليهود والمسيحيين والمسلمين” . المجموعة التي تنتمي إليها مينوكال -وهو ليس انتماء واعياً بالضرورة - والتي أشير إليها هنا هي مجموعة مستشرقات غربيات معظمهن ألمانيات وروسيات كانت اثنتان منهنّ من أشهر الناشطات في الدراسات العربية الإسلاميّة في الغرب هما زيغريد هونكه، آنماري شيمل. أما الأخريان فهما كاتارينا مومزن (ألمانية) ودوروثي ميتلتزكي (روسيّة). معظم الباحثين العرب في الدراسات العربية والإسلامية يعرفون هونكه صاحبة كتاب “شمس العرب تسطع على الغرب” لكنّ الناظر في حياتها ونشاطها مضطر لطرح أسئلة لم أكن أحسب أنها واردة . عاشت هونكه ما بين 1913 و 1999، ودخولها عالم الاستشراق لم يكن نتيجة تخصص أو استعداد علمي فهي لم تتلق التعليم المؤهّل لحياة علميّة وبحثيّة في هذا المجال. لم تدرس اللغات الشرقية لتعرف ثقافات الشعوب الشرقيّة لكنّها اهتمت بتلك الثقافات من زاوية أنثروبولوجيّة، وبالتحديد بالأديان الشرقية من زاوية تاريخية مثلما اهتمت بالجوانب العرقية للشعوب الشرقية وهو مبحث كانت له أهميَّته على المستويات الأكاديميّة لكنّه اكتسب أهميّة سياسية متزايدة بمجيء النازية إلى ألمانيا في أوائل الثلاثينيات. وكان من أساتذة هونكه في تلك المرحلة الباحث لودفيغ كلاوس المشهور بتنظيره في مجال الأعراق البشريّة، أما رسالتها للدكتوراه فتناولت “أصول النماذج الأجنبيّة وتأثيرها على الشعب الألماني”، حيث تناولت الأعراق غير الأوروبية، مثل اليهود وتأثير وجودهم على الألمان. يرى بعض الباحثين أن اهتمام هونكه بالشرق جاء من زاوية المبحث العرقي وما انطوى عليه من أبعاد أيديولوجية ازدهرت أثناء العهد النازي، ومع أنّ هونكه سعت في فترة ما بعد الحرب لنفي تلك الصلة، فإنّ الشواهد كثيرة على وجودها. ففي تقدير بعض الباحثين يمكن تفسير اهتمام هونكه الكبير والحميم بالثقافة العربية على أساس عنصري، بالقول إنّها سعت لإبراز ثقافة سامية ولكنها غير يهودية لكي تثبت أن الموقف العدائي الألماني آنذاك تجاه اليهود لم يكن عداءً للسامية بحدّ ذاتها وإنّما لفئة من الشعوب أو الجماعات غير المرغوب بها. هذا إلى جانب أنّ إبراز تأثير العرب أو المسلمين على الغرب يبرز بدوره تاريخاً لأوروبا غير التاريخ المسيحي / اليهودي الذي كانت هونكه غير متحمّسة له تبعاً لرؤية علمانية تبنتها . أيّاً كان الأمر فإنّ السؤال المطروح مهمّ لأنه يثير السياقات التي ينشأ فيها البحث وتتشكّل فيها المعارف والآراء، الأمر الذي يسلّط ضوءاً أكبر على الأطروحات الفكرية والبحثية المختلفة، علماً بأنّ مثل هذا المبحث معرّض بشكل خاص للأدلجة السهلة إن هو انزلق إلى مساءلة النوايا دونما شواهد أو أدلّة نصيّة وتاريخية مقنعة. وفي كل الحالات فإنّ مثل هذه التساؤلات لا ينبغي أن تغفل النتائج المتحققة، وهي هنا دراسات مهمة ولا أستبعد أن تكون أهميتها من حيث هي تسلّط الضوء على إسهامات حضارية تعاني من التهميش في الدراسات الغربيّة العامة أي غير الاستشراقية، سبباً وراء إثارة الأسئلة حول الدوافع. فالحديث عن شمس عربيّة تسطع على الغرب يحمل من القوة ما يستثير الحساسيات القومية والكبرياء الحضارية، تماماً كما لو أنّ أحداً ألف كتاباً بعنوان “شمس الغرب تسطع على العرب أو المسلمين”، علماً بأنّ الغرب المتفوّق حضاريّاً والمسكون بغير قليل من الحساسية التاريخيّة تجاه كل ما هو إسلامي أو عربي سيكون أكثر مقاومة لأطروحات كالتي جاءت بها هونكه . الكتاب الرئيس الذي عرفت به هونكه ترجم سنة 1964 تحت العنوان المشار إليه أعلاه، لكنّ العنوان في الحقيقة هو «شمس الله تسطع على الغرب وليس “شمس العرب” وبالألمانية Allahs Sonne uber dem Abendland وكانت ترجمته بعد أربعة أعوام على صدوره وهو زمن قياسي في سرعة الترجمة العربية لما يصدر في الغرب لاسيما في الستينيات، لكن قد يكون للمد القومي آنذاك دور في تلك السرعة وفي اختيار العنوان ذي الطابع العلماني. وستتضح السرعة حين نقارن ترجمة ذلك الكتاب بترجمة كتاب تال لهونكه هو “جمال على معطف القيصر”، فالكتاب الثاني صدر سنة 1978 ولم يترجم سوى عام2000، وكعادة كثير من دور النشر العربيّة لم تشر الدار المترجمة ،وهي دار المدى، إلى تاريخ نشر الكتاب الأصلي، والسبب واضح، فاثنان وعشرون عاماً ليست بالمدى القصير . يشير الكتاب الأخير إلى حادثة تاريخيّة تصوّر طبيعة الصلة الحضارية بين العرب وأوروبا، فالمعطف المشار إليه هو الذي ارتداه الإمبراطور فريدريش الثاني حين توّج في روما بوصفه أوّل حاكم ألماني في الثاني والعشرين من تشرين الثاني عام .1220. والمهم بالطبع هو أن المعطف، كما تقول هونكه “من صنع أيادٍ عربيّة. وهو لا يزال يتألق في القلعة في فيينا أمام الزوّار القادمين ويشع من الجدار الخلفي لغرفة الكنز العالميّة”. كما أنّ من المهمّ أنّ التطريز على المعطف يظهر جملاً ينهار تحت مخالب أسد ينقض، كما تقول الباحثة الألمانية، “كرمز للنصر النورماندي ولفتح صقليّة العربيّة”. ثم تشير هونكه إلى أهمية الجمل عند العرب مقارنة بأهميَّته لدى الأوروبيين. لكن الأكثر أهمية هنا هو القيصر، أي فريدريش أو فريدريك الثاني، الذي ارتبط اسمه بصقلية في فترة حاسمة من فترات الانتقال الحضاري حين اهتم ذلك الإمبراطور بالحضارة العربيّة الإسلاميّة الآفلة راعياً لمن تبقى من علمائها وكنوزها وساعياً إلى نقل ذلك إلى أوروبا ليكون بدوره عاملاً أساسياً في نهضتها القادمة . هذا المفصل الحضاري هو ما عنيت به أيضاً العاشقتان الأخريان، شيمل وميتلتزكي، كل من زاويتها المستقلة. فيما يتعلّق بالمستشرقة الألمانية أنماري شيمل (1922) - (2003) يمكن القول إنها قد لا تكون الأشهر عربيّاً بين المسشرقات الأوروبيات، أو من من أسميتهن عاشقات الشرق، فلربما كانت زيغريد هونكه نتيجة لكتابها الذائع الصيت “شمس الله تسطع على الغرب” هي الأشهر. لكن شيمل هي في حقيقة الأمر الأجدر بتلك الشهرة لسببين رئيسين الأوّل ضخامة نتاجها المتعلّق بالشرق الإسلامي، والثاني حميمية العلاقة التي ربطتها بثقافات الشرق وأهله. وإذا كانت حميمية العلاقة قاسماً مشتركاً بين الباحثات المشار إليهنّ هنا فإنّ اتصال شيمل بالموروث الصوفي الإسلامي في آسيا يضفي على علاقتها غلالة شعريّة وعشقيّة مميّزة نلمسها من كتاباتها مثلما من عناوين كتبها . أصدرت شيمل حوالي مائة كتاب في مجال الدراسات الإسلامية، وعدداً ضخماً من المقالات والأبحاث المتخصصة على مدى يزيد على النصف قرن من البحث والدراسة والتدريس والتنقل. وكانت حتى تاريخ وفاتها أستاذة في جامعة هارفارد التي انضمت إليها سنة 1970 أستاذة للثقافة الهندو - إسلاميّة وظلّت في ذلك المنصب حتى تقاعدها سنة 1992. أما اهتماماتها فقد تركزت بشكل خاص على تاريخ التصوّف الإسلامي وما يتصل بذلك من آداب في شعوب الشرق المختلفة. وقد ساعدها على التأليف المكثف في ذلك معرفة بمعظم لغات المنطقة من عربية وفارسية وتركيّة وأردية وغيرها . زارت شيمل معظم المناطق التي تناولت تراثاتها وعملت في بعضها وحاضرت في معظمها، كما كرّمت في بعض تلك البلاد وبالذات باكستان حيث سمّي شارع رئيسي في مدينة لاهور باسمها ومنحت أعلى الأوسمة الباكستانية إضافة إلى درجات دكتوراه فخرية . ويعود ذلك التكريم إلى اهتمام شيمل الخاص بالآداب الإسلامية في منطقة شبه القارة الهنديّة سواء ما أنتج في العصر الوسيط من الآداب، كما في كتابات جلال الدين الرومي، أو الحديث، كما في كتابات محمد إقبال . ومن أعمالها في هذا المجال وغيره : 1 - كما من خلال نقاب : الشعر الصوفي في الإسلام 2 - الخط والثقافة الإسلامية 3 - أنا ريح وأنت النار : حياة رومي وأعماله 4 - روحي امرأة: المؤنث في الإسلام 5 - أبعاد صوفية في الإسلام 6 - ومحمد رسول الله : تبجيل النبي في التدين الإسلامي 7- الخط والثقافة الإسلامية قد نفهم اهتمامات شيمل في التصوّف الإسلامي لو عدنا إلى بداياتها كما تشير هي في سيرتها الذاتية حيث تقول إنّها قرأت في سنّ السابعة حديثاً للرسول عليه الصلاة والسلام يقول “إنّ الناس نيام فإذا ماتوا استيقظوا” وتقول : “منذ تلك اللحظة عرفت طريقي : صار الشرق هدفي الشرق، مكمن الحكمة”. وكان مصدر معرفتها بذلك الشرق الكاتب والشاعر الألماني الشهير غوته الذي ظلّ البطل الرئيس أو الملهم لاتجاهها. إضافة إلى تلك الدوافع الفكرية الثقافية، لابد أن نشير أيضاً إلى دافع آخر، ومهم ليس بالنسبة لشيمل فحسب وإنما بالنسبة لآخرين وأخريات من المستشرقين الألمان في الربع الأول من القرن العشرين. فكما يشير شتيفان فایدنر المشرف على تحرير مجلة «فكر وفنّ» الألمانية، في مقالة تأبينية لشيمل، كانت الأزمة الاقتصادية التي بألمانيا في العشرينيات، ثم تسلّم النازيين السلطة، عاملاً مهماً في دفع بعض المثقفين الألمان إلى الاهتمام بالثقافات الأخرى ليس بالدراسة فحسب وإنّما بالهجرة الفعليّة. ويتضح ذلك عندما يتبين أن الشرق الذي استحوذ على تفكير شيمل، كما هو الذي استحوذ على اهتمامات المستشرقتين الأخريين هونكه ،وميتلتزكي، كان شرقاً تاريخياً بعيداً في المكان والزمان معاً، كأنما هو شرق ثقافي وروحي يمثل ملاذاً لهاربات من واقع مؤلم. غير أنّنا لا ينبغي أن نبالغ في إعطاء ذلك الشرق البعيد قيمة، فقد عرفت شيمل الشرق المعاصر مثلما عرفته الأخريان، ومثلما عرفته مسشترقة أخرى هي اتارينا مومزن، بشكل مباشر إما من خلال الزيارة وإلقاء المحاضرات أو العمل والإقامة. فمع أنّ اهتمام شيمل انصبّ على الشرق البعيد زماناً، نجدها تهتم ببعض جوانب الثقافة المعاصرة في بعض البلاد الشرقية التي عرفتها أو اقتربت منها. فقد ترجمت مثلاً للشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، الذي يمكن أن يقال مع ذلك إنّه شاعر اهتم بالتصوّف الذي اهتمت به شيمل نفسها . ترجم العديد من أعمال شيمل إلى العربية، وكتبت حولها دراسات عدة. ومن بين من ترجموا لها أو تناولوها بالتأليف أو التقديم من العرب محمد عمارة وأحمد أبو زيد وسميحة الصعبي، ومحمد محمود يوسف، وصادق العبادي وحسام الدين بدر. ولعلّ في عنوان الكتاب الذي قدّم له محمد عمارة ما يدلّ على شدة الإعجاب الذي حظيت به تلك المستشرقة لدى عامة الباحثين المسلمين، فهي حسب العنوان “نموذج مشرق للاستشراق”. وإذا كـانـت شـيـمـل جـديـرة بالإعجاب فإنما لأنها كانت هي البادئة به، فقد أعجبت بالشرق حدّ العشق، مثلما عشقته معها وبعدها نساء غربيّات أخريات، ليبقى بعد ذلك سؤال عن الأبعاد المعرفية والثقافية لتلك العلاقات المدهشة . تلك الأبعاد المعرفية والثقافية تنثار مرّة أخرى في حالة المستشرقة الأخيرة ضمن هذه القائمة المميّزة : ولربما كانت دوروثي ميتلتزكي الأكثر إثارة للجدل بين من ورد ذكرهنّ من الباحثات/ المستشرقات، علماً بأنّها لم تترك سوى كتابين يتصلان بالثقافات الشرقية أو الآسيوية، أحدهما يتعلّق بشرق آسيا البعيد، والآخر بشرقها العربي الإسلامي القريب مكاناً ولیس زماناً. وإذا كان هذا بحد ذاته لا يثير الكثير من الاستغراب في سياق باحثات مثل مينوكال وهونكه لم يصدرن الكثير من المؤلّفات، فإنّ ما يثير الاستغراب لا يتعلّق بعدد الكتب أو الدراسات، وإنّما في الخلفية والدوافع، الأمر الذي ينبغي الاهتمام به على النحو الذي حاولت مقاربته في وقوفي عند المستشرقات الأخريات. فالسؤال هو: ما الذي يستحثّ هذه السيدات الباحثات على تبنّي الشرق العربي وغير العربي بهذه الحميمية؟ وقد وجدنا بعض المؤشرات ولكنّها تحتاج إلى المزيد من التقصي. ولعلّ جانباً من الأهمية يعود إلى مسألة لا تحظى بالكثير من الاهتمام لأن البحث العلمي والاجتهاد الفكري ينظر إليه غالباً بوصفه مبرر نفسه، أي أنه ناتج عن حبّ استطلاع أو رغبة في المعرفة، أو أي من تلك الإجابات الجاهزة التي تستند إلى خلفيّة تنويرية أوروبية ترى العقل مرجعاً مطلقاً للمعرفة وتكاد تنزّهه عن أي دوافع شخصيّة أو إثنية أو سياسية أو غير ذلك مما قد يشوّه وجه المعرفة . دوروثي ميتلتزكي تستثير التساؤل مثلما تستثيره هونكه من الزاوية الأيديولوجية، أي من حيث علاقتها - أي هونكه - بالنازية وبالفكر العنصري. ميتلتزكي تستثير السؤال المقابل، فهي يهودية عرفت في فترة من حياتها بنشاط صهيوني داعم لإسرائيل ومن داخل ذلك الكيان، حيث نشطت في بناء المؤسسة الأكاديميّة هناك وقامت بجهود واسعة للدعاية لإسرائيل والحصول على الدعم لها. والغرابة هي في أن تنصرف فيما بعد إلى الدراسات المتعلقة بالإسهامات العربية في تشكيل الحضارة الغربية وتصدر كتاباً ضخماً ومهماً في ذلك المجال . ولدت ميتلتزكي عام 1914 لعائلة يهودية ألمانية وأقامت مع عائلتها في روسيا قبيل الثورة الروسية حيث كان والدها تاجراً ثريّاً. لكنّ الثورة الروسيّة أدّت إلى هجرة العائلة إلى ليثوانيا ثم بعد مجيء النازيين إلى بريطانيا حيث تخصصت دوروثي في الأدب العربي والأدب الإنجليزي الوسيط وحصلت على شهادة ماجستير في كل من الحقلين وذلك عام 1939، وكان من أساتذتها في لندن المستشرق الإنجليزي الشهير السير هاملتون جب. وفي لندن تعرّفت على عدد من الكتاب والمثقفين البريطانيين، وكذلك على مثقفين يهود متحمسين للصهيونية مثل آبا إيبان وموشي شاريت. فكان أن هاجرت إلى فلسطين عام 1939 لتشارك في تأسيس الدولة العبرية من خلال إيمانها برسالة تلك الدولة التي وظفت لخدمتها كافّة طاقاتها واهتماماتها الأكاديمية، فشاركت في تأسيس قسم اللغة الإنجليزية في الجامعة العبرية وتزاملت في تلك الجامعة مع فلاسفة صهاينة مثل مارتن بيوبر وغير شوم شولم. وفي عام1944 تزوّجت في القاهرة من المستعرب بول كروس الذي كان يدرس في الجامعات المصريّة عندئذٍ. وحين مات كروس منتحراً تزوّجت بیرنهارد غرد زيلوف المختص بالتاريخ الفرعوني والذي توفي هو الآخر عام 1950 بعد أن رزقت منه بابنة. لكن ذلك لم يوقف نشاطها الصهيوني في إسرائيل حيث نشطت بعد تأسيس الدولة العبرية في الدعاية لها في دول مختلفة. فقد زارت الولايات المتحدة سنة 1951 لتستقرّ فيها بعد ذلك وتحصل على الدكتوراه من جامعة ييل في الدراسات الأمريكية. بعد استقرارها في أمريكا انصرفت ميتلتزكي على ما يبدو إلى عملها الأكاديمي فبدأت اهتماماتها الاستشراقية في التبلور، أوّلاً من خلال رسالة دكتوراه حول الروائي الأمريكي هيرمان ميلفيل واهتماماته الشرقيّة طبعت فيما بعد في كتاب بعنوان «Melville’s Orienda» (1961)، ثم في كتابها الكبير المادة العربية في إنجلترا العصور الوسطى The Matter of Araby in Medieval England) الذي أبرز التأثير العربي على إنجلترا في تلك الفترة من خلال التأثير العربي الإسلامي الواسع على أوروبا عامة، وهو الكتاب الذي ما يزال الأهمّ في موضوعه. وكان من تأثير ذلك الكتاب أن منحت ميتلتزكي درجة الأستاذيّة في جامعة ييل بعد أن قضت شطراً من التدريس في جامعة كاليفورنيا - بيركلي في ذلك المجال . في كتاب “المادّة العربيّة في إنجلترا في العصور الوسطى” تقدّم ميتلتزكي ما يقابل المواد أو المكوّنات الأخرى في ثقافة العصور الوسطى، وقد اعتاد مؤرّخو تلك الفترة استعمال عبارة «مادة» Matter للإشارة إلى المكوّنات الثقافيّة عندئذ، كالمادة الإغريقية أو المادة اللاتينية وهكذا. وواضح أنّ ميتلتزكي أرادت أن تبرز مادة يتجاهلها الباحثون المختصون أو يجهلونها، وفي ما قدّمته إبراز غير عادي سواء في شمولية البحث أو في تعمّقه على النحو الذي أعانت عليه معرفة ميتلتزكي بعدة لغات منها العربية واللاتينية، ولعلّ هذا من الأمور التي تزيد من صعوبة ترجمة الكتاب. إنّنا هنا إزاء عمل كان وما يزال مرجعاً رئيساً للباحثين، وكنت من أولئك الذين رجعوا اليه حين جئت لكتابة أطروحتي للدكتوراه في أوائل الثمانينيات حول “الاستشراق الأدبي في الأدب الأنجلو أمريكي”. حين نقرأ كتاب ميتلتزكي لا نجد ذلك الاندفاع الشعري أو الصوفي الذي نحسّه لدى أنماري شيمل، أو تلك الحماسة العاطفية لدى هونكه أو حتى مينوال. ما نجده هو تحليل ينشد الدقة والمنهجية، لكن ما يجمعه بعمل الباحثات الأخريات هو أنه إنجاز يهدف إلى خدمة تراث حضاري بالغ الأهمية في تاريخ أوروبا ولم يول العناية التي يستحق. الشيء المختلف هنا كما تشير ميتلتزكي في صفحاتها الأولى، هو أنّها تؤرّخ لتراث حضاري لم يكن العرب هم صانعيه الوحيدين، بل هي شعوب كثيرة وحدها الإسلام واللغة العربية، وتستشهد في هذا السياق بجملة لأستاذها المستشرق البريطاني هاملتون جب يقول فيها إن الموروث العربي في أوروبا الوسيطة هو «المعلم الباقي لحضارة وليس لشعب». ويعني هذا أنه لا ينبغي المبالغة بالحديث عن دور للعرب كما تفعل هونكه، فقد كان دورهم مهما ولكن الشعوب الأخرى لعبت دوراً مساوياً في الأهمية. وإذا كان البعض مستعداً على هذا الأساس لتأويل جهد ميتلتزكي تأويلاً عنصريّاً أو عرقيّاً يقلل من دور العرب، فقد يكون مبالغاً في ذلك، فالحضارة الإسلامية كانت بالفعل صنيعة جماعات إثنية متعدّدة. لكن السؤال هو هل كانت ميتلتزكي تردّ على هونكه في حماسة هذه الأخيرة للعرب وحدهم؟ ثم هل مساواتها العرب بغيرهم جاء نتيجة حماسة علمية للمساواة بين الأجناس لا سيّما أنّها مساواة لا تخلو من إجحاف بحق الدور العربي؟ إنّ سؤال الانتماء سيظل واقفاً يطرح نفسه باستمرار، أقصد انتماء ميتلتزكي وحماستها الأيديولوجية للصهيونية. * نص الورقة التي ألقاها الدكتور في مقهى دفعة 89 مساء الأثنين الماضي، ضمن لقاءات أثنينية سعد البازعي.