عرش بلقيس ..

عاصمـــة مملكــة ســبأ .

خلال تأمّل القصص الواردة في القرآن الكريم فإننا ننتقل بذاكرة الخيال عند قراءة تلك القصص إلى الأزمنة والتواريخ الغابرة، ونستطيع أن نرى بوضوح الحوادث التي وقعت في فجر التاريخ، ونستكشف أحوال الأمم الماضيّة ، فقد أخبرنا القرآن الكريم بكثير من وقائع الماضي والديار وتتبع آثار الأقدمين وظروف وطبيعة حياتهم، وتجاربهم الّتي عاشوا فيها، ومن هذه القصص ماجاء في سورة النمل « قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين(39) قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غنِى كريم(40)». إنّه عرش بلقيس ملكة مملكة سبأ، أحد أعاجيب الزمان والمكان، التاريخ الضارب جذوره في الوجود منذُ الأزل وحتّى الأبد، يعد الموقع الأثري الأشهر من بين الآثار اليمنية والسبئية القديمة التي مثلت رمزاً للسلطة الدينية، ومقصداً للشعوب والقبائل الّتي كانت تخضع لمملكة سبأ؛ لتقديم القرابين والنذور وتعبيراً عن الخضوع والولاء. وكان”معبد بران” أو عرش بلقيس من أشهر الأماكن الّتي يحج إليها اليمنيون وغير اليمنيين، وهو حج له شعائره وطقوسه الخاصة به، وكانت زيارات الحجيج تجري في مواسم محددة من كل عام، فهناك مواسم للحج الجماعي، وهذه تكون في شهر(ذابهي)، أما مواسم الحج الفردي الّذي يختلف شعائره وطقوسه عن الحج الجماعي، وهذا الأخير يكون في (ذي هوبس). ويقع عرش الملكة بلقيس في مديرية الوادي -محافظة مأرب-، وسط البلاد، وهي عاصمة مملكة سبأ، الّتي ورد ذكرها في القرآن الكريم، في سورة تحمل اسم”سبأ”، ويصل عمرها إلى حوالي 3 آلاف سنة؛ تماماً في الجانب الغربي من الطريق الذي يصل بين محافظتي مأرب وحضرموت - بداية صحراء الربع الخالي من الجهة الغربية، في منطقة معزولة تستخدم بشكل رئيسي كمكان ديني مقدس يسمى أوام وتعني«مكان اللجوء» . تأريخ البناء وسبب التسمية: تشير المصادر التأريخية إنه بُنّيْ في عهد الملكة بلقيس الّتي حكمت مملكة سبأ في القرن العاشر قبل الميلاد، وسمي العرش” معبد بران”، تمييزاً له عن المعبد الآخر الذي يقع بالقرب منه ويطلق عليه”معبد أوام” أو” معبد المقه” (إله الدولة)، ويختص معبد بران بالكثير من المميزات المعمارية والهندسية، بالإضافة إلى مكانته الدينية في الفترة مابين القرنين العاشر والرابع قبل الميلاد حيث كان الناس يحجون إليه من مختلف أنحاء الجزيرة العربية. يتكون “عرش بلقيس” من(6)أعمدة بروبيلية عند المدخل، أحدها مكسور، كما يضم وحدات معمارية أهمها “قدس الاقداس”، والفناء الأمامي وملحقاتهما، مثل السور الكبير المبني من الطوب، إضافة إلى المنشآت التابعة له. وبحسب كتاب” اليمن السعيد” الصادر عن وزارة السياحة اليمنية، فقد تطورت العناصر المعمارية “لعرش بلقيس”، في حقب زمنية مختلفة منذ مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ويبدو أن المعبد مكون من وحدة معمارية متناقسة يتقابل فيها المدخل الرئيسي والساحة مع الدرج العالي، بشكل يوحي بالروعة والجمال وعظمة المنجز”. وبحسب الدكتور مبخوت مهتم مدير مكتب الآثار في محافظة مأرب فإن العرش يتجه نحو مشرق الشمس( الشمال الشرقي) ويتكون من ستة أعمدة، تليها قاعة كبيرة مستطيلة الشكل، وسور ضخم على شكل بيضاوي مع هياكل خارجية أخرى مرتبطة( بالقرب من المقبرة)، مشيراً إلى أن الركائز هي الميزة المعمارية الأكثر انتشاراً في الهياكل الدينية العربية الجنوبية القديمة. وأضاف مهتم: “ استخدام الثور البرونزوي والحصان والتماثيل البشرية في بوابات الدخول للمعبد، وللوصول إلى المجمع وضعت أبواب مؤدية إلى سلسلة هرمية من الساحات والقاعات التي كانت بمثابة مناطق انتقالية، كما أن هناك العديد من جوانب الزخرفة واللوحات الهندسية والتماثيل والمنحوتات والأحجار الكبيرة المنحوتة بدقة، والنقوش المنحوتة المطلية باللون الأحمر، والأفاريز الجميلة المزخرفة على الجدار الخارجي، تهدف إلى إقناع الزائر وإرهابه بحضور الإلهة”. ويعكس الرقم ثمانية- بحسب مهتم- رقماً مقدساً، حيث تم استخدامه عند المدخل والأعمدة الداخلية(8×4) والنوافذ(8×8)، مبيناً أن “ هناك قناة مياه مصنوعة من المرمر كانت تمر من خلال القاعة إلى الحوض البرونزي موضوعة في غرفة لأغراض التنقية ويسقط الماء على الأرض مثل النافورة”. ويحيط بالعرش سور ضخم يبلغ طوله 757 متراً وارتفاعه 13 متراً؛ لكنه في الوقت الحالي غير واضح المعالم بفعل عدم الاهتمام بالمكان طيلة السنوات الماضية، وأقدم نقش تم العثور عليه حول السور كان على يد مكرب يداع ضريح في القرن السابع قبل الميلاد. ويشير الدكتور مهتم إلى وجود مقبرة العرش الّتي تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد وترتبط بالحرم البيضاوي، ولايمكن الوصول إليها إلا منه..مضيفاً أنها “ تتسع نحو20 ألف مقبرة تقديرية خلال فترة استخدامها الطويلة. وكانت مقابر المقبرة عبارة عن هياكل متعددة الطوابق( تصل إلى خمسة) مبنية باستخدام كتل من الحجر الجيري المصقول والمنحوت بشكل ممتاز، كما أن الجدران الخارجية مزينة بأفاريز ونقش منخفض. وشهد “العرش” عمليات ترميم واسعة على مراحل مختلفة، بين عامي 1990و2000، من قبل المعهد الألماني للأثار؛ ليصبح بالصورة التي هو عليها الآن. وإلى وقت قصير كان” عرش بلقيس” قبلة السياح من مختلف الأوطان، قبل أن تسبب الحرب في اليمن بتوقف أفواج الزوار، خصوصاً أن محافظة مأرب أخر معاقل السلطة الشرعية في شمال اليمن. وتحول عرش بلقيس إلى ما يشبه الطلال لا يزوره إلا عدد قليل من المواطنيين اليمنيين والسكان المحليين في المناسبات المختلفة. ويرى مدير مديرية الوادي، عبدالله حمد جردان، أن” انقلاب الحوثي على الدولة، بالإضافة إلى تواجده على أطراف مأرب فارضاً عليها حصاراً جائراً، يعتبر من أبرز أسباب تدهور الجانب السياحي في المنطقة، ما أدى لإهمال هذه الكنوز الأثرية وعدم إظهارها للعالم بالشكل المطلوب.