
المنازل الدافئة التي تعج برائحة الكعك المخبوز حديثاً، وأصوات الأبناء القادمة من غرفهم، صوت المطر في الخارج، والكثير من المهام على القائمة لإنجازها، غسيل لم ينشر بعد وصحون في انتظار غسلها وبقايا ألعاب وورق هنا وهناك، كل ما قد يبدو عادياً الآن سيكون حلم هذا المنزل بعد زمن حين يتقدم عداد العمر ويصبح كل شيء أبطأ وأهدأ، لا ألعاب على الأرضية.. لا أصوات ضجيج في الداخل، لا نزاعات تفض لا مساومات ولا رائحة كعك تحوم داخل البيت، كل المهام منجزة، البيت أنظف مما يجب ولا شيء في هذا السكون سوى صوت هاتف منتظر آت من قارة بعيدة، ذات الصوت الذي كان يأتي قبلاً من غرفة الأطفال! يا للحياة إنها مفرمة وقوانينها سارية على الجميع، ينفض الجمع في آخر الرحلة لتقولبك الحياة كيفما تشاء وتشكلك على قياسات المجتمع والسائد، وبعيداً عن هذه الدراما الإنسانية التي غمرتني وأثرت في كثيراً سأكتب اليوم عن الفيلم الإيراني “ my favorite cake” والسينما الإيرانية من أجمل ما يمكنك أن تشاهد فهي متمردة على واقعها وتسبق زمانها ومكانها بخطوات ضوئية، ومع كون إيران هي مصدر الجدل السياسي الدائم في الشرق الأوسط وخاصة هذه الأيام، فمن الجيد أن نستكشف المشهد الإيراني الإنساني كذلك من خلال هذا الفيلم الذي قد يبدو مجرد قصة بسيطة تحكي عن امرأة مسنة تبحث عن الأنس وتعاني من الوحدة ، إلى قصة أعمق بكثير من ذلك حيث الظروف التي صنعت حياة هذه المرأة، الحروب والأنظمة والثورة وشرطة الأخلاق وتزمت المجتمع المتدين وعدم تقبل الآخر والكثير من التفاصيل التي هي أعمق وأكثر تأثيراً من قطعة كعك مفضلة بل هو وصف ناعم لثورة داخلية صامتة، تقودها امرأة سبعينية ضد مجتمع يقمع الحب والحرية، والأنوثة. تدور أحداث الفيلم حول “ماهين” وهي أرملة في السبعين من عمرها تعيش حياة هادئة بعد وفاة زوجها وهجرة ابنتها إلى أوروبا، الكثير من الأيام تمر دون أن تتحرك الحياة مقدار ذرة، كل شيء يكرر نفسه، بخلاف بعض جلسات الشاي مع الصديقات من وقت لآخر، وبعد أحدى جلسات شاي مع صديقاتها تُثار فكرة تغيير روتينها اليومي واليأس من الوحدة وتفكر في إيجاد رفيق، فتُقابل “فراماز”، سائق تاكسي عجوز، بطريقة عفوية، فيتطور الحديث بينهما إلى دعوة إلى بيتها، حيث تتضمن الأمسية شرب النبيذ، الرقص، الطعام – وذكريات عن الحياة ما قبل الثورة. هو فيلم له طعم إنساني بامتياز وجرأة لا متناهية في صياغة رومانسية كبار السن في وجه الرقابة والخوف، حيث يجمع بين الدفء العاطفي والصوت السياسي بشكل متوازن، ويستحق أن يُعتبر من أبرز الأعمال السينمائية التي شهدتها السنوات الأخيرة، فهو فيلم يقدّم تجربة جديدة عن الحب والحرية، والتمرد على القوانين الجائرة، حيث يظهر الحضور الخفي لما يسمى بـشرطة الأخلاق، حتى لو لم تُرَ دائماً ففي إيران، لا أحد فوق المراقبة، حتى الأرامل العجائز! وحتى مجرد خروج امرأة مسنّة من بيتها، ولقائها برجل غريب، ومشاهد الرقص أو شرب النبيذ – هي كلها أفعال ثورية وكأنها سخرية في الوقت الضائع في سياق بلدٍ يُقيد أبسط الحريات الشخصية، ومن أجمل ما في الفيلم أنه يقدّم رومانسية الكبار كشيء شرعي جميل، وحقيقي، وهذا بالتأكيد يزعج المجتمعً الذي يرى أن الحب فقط للشباب. “ماهين” و”فراماز” لا يبحثان عن جسد، بل عن رفقة، حوار، لمسة… وهذا بحد ذاته ثورة على النظرة الاستهلاكية للحب والزواج، والكعك في هذا الفيلم ليس حلوى إنما هي رغبة الإنسان البسيطة أن يختار كيف يعيش، ومتى يفرح. والسينما الإيرانية في هذا الفيلم الذي أخرجته “مريم مقدم” وزوجها “بيتهاش” يمزج ما بين الرمزية الفنية مع السياسة الواقعية لتقديم قصة شخصية تحمل معاني اجتماعية كبيرة، فهي ليست ناشطة سياسية، لكنها تمثل شريحة من النساء الإيرانيات اللواتي يقاومن بالصمت، بالمطبخ، بالحياة اليومية، الفيلم نفسه عمل مقاومة فالمخرجان مُنعا من السفر بعد عرض الفيلم في مهرجان برلين، وتم استدعاؤهما للتحقيق وهذا يؤكد أن العمل الفني بإمكانه إحداث التغيير، كل مشهد صغير يحمل دلالة كبيرة على الصراع بين الرغبة الذاتية وسلطة المجتمع. فالبطلة “ماهين” لا تعيش في زمن واحد، جسدها في السبعين لكن قلبها يتذكّر الحب والحرية، كما أن الإخراج تبنى طريقة الهمس وليس الصراخ، حركة الكاميرا بطيئة، الحوار قليل، الصمت كثير، كل تفصيل يحمل دلالة جمالية وتأملية، مما يأخذك إلى الواقع مباشرة فتجد نفسك شريك اللحظة وتشعر بكل ما يحدث وكأنه في المنزل المجاور لك، الحرية ليست بالضرورة شعارًات سياسية ففي الفيلم هي قرار يومي أن تفتحي الباب، أن تدعي رجلاً إلى بيتك، أن ترقصي دون خوف. كعكتي المفضلة فيلم بسيط ظاهريًا، عميق داخليًا، يجمع بين البُعد السياسي، الفلسفي، والرمزي ليقدم صورة نادرة عن الحب والكرامة، والتمرد الصامت في خريف العمر، يُصوّر المرأة الأكبر سنًا بشجاعة وثقة، ويطرح مفهوم الحرية والتعبير بغض النظر عن العمر، وهو غني بالرمزية السياسية، مبطن بالتمرد الصامت على النظام القمعي الإيراني، بجودة إخراج عالية وأداء تمثيلي طبيعي وعميق، يلامس القلوب ويتردد صداه طويلًا في الذهن، جاءت النهاية في الفيلم محبطة كالواقع تماماً وكأن كل شيء في طريقه للأفول. الفيلم من إخراج “مريم مقدم” وزوجها المخرج “بهتاش سنائحة” ، بطولة الجميلة “ليلي فرهادبور” و”إسماعيل محرابي”.