حرفة التطريز اليدوي ..

غرزٌ من ذهب.

بين الإبرة والخيط، تنسج الذاكرة الشعبية تفاصيلها، وتُطرّز الأمكنة والملامح والهوية، فحرفة التطريز اليدوي التقليدي ليست مجرد زخارف تزيّن الأقمشة، بل هي لغة بصرية تنطق بتاريخ المكان، وتترجم ثقافة المرأة السعودية على مدى قرون، حرفةٌ عريقة تجذّرت في رمال القرى وجبال الجنوب وسواحل الغرب، وامتدّت لتصبح رمزًا جماليًا وفنيًا يستحق الحماية والاحتفاء. وفي عام 2025 الذي خصصته وزارة الثقافة ليكون “عام الحرف اليدوية”، تتقدّم هذه الحرفة إلى واجهة الضوء مجددًا، لا بوصفها أثرًا ماضيًا، بل بصفتها موردًا ثقافيًا واقتصاديًا حيًا، يحتفظ بأصالته، ويعيد صياغة حضوره في روح العصر. جذور متأصلة لم تكن حرفة التطريز اليدوي التقليدي في المملكة وليدة الصدفة أو نتاج رفاهية وقت، بل وُلدت من رحم الحاجة والذوق والفطرة الجمالية، وترعرعت في البيوت السعودية كفنٍ نسائيٍ موروث، تنقله الأمهات إلى البنات كما تُورّث المجوهرات الثمينة. ومنذ القدم، كانت الإبرة والخيط رفيقَي المرأة في لحظات السكون والتأمل، ومجالًا لتجسيد مشاعرها وهمومها وأحلامها على القماش، فكانت الغرز تحكي ما تعجز عنه الكلمات، وكانت الجدّات ينسجن حكايات القبيلة والدار والمناسبة على أطراف الأثواب، ويتركن بصمتهن الخاصة في كل غرزة، فكل شكل مطرّز يحمل دلالة لا يعرفها إلا أهل المنطقة. لا يمكن اعتبار التطريز زينة سطحية فحسب، بل وثيقة مرئية تنتمي لجغرافيا المكان وتاريخه. ففي المناطق الجنوبية، وخصوصًا في عسير، امتزج التطريز بألوان الحياة والطبيعة، فانعكس على الأقمشة ببهجة صارخة تعكس فلسفة “القط العسيري”، تلك الزخرفة الجدارية ذات الألوان التي دخلت قائمة التراث الإنساني. بينما في شمال المملكة، وتحديدًا في محافظات مثل طريف وعرعر، اتّسم التطريز بطابع أكثر وقارًا، تُهيمن عليه الألوان الداكنة والغرز الهندسية الدقيقة، بما يتناسب مع طبيعة المناخ وثقافة المجتمع. وفي الحجاز، حملت التطريزات طابعًا مدينيًا أنيقًا، تأثر بامتزاج الثقافات الوافدة، حيث زخرفت النساء ثياب المناسبات بخيوط ذهبية وفضية، في حين برز في نجد ما يُعرف بـ “تطريز الخرز”، الذي يزيّن الملابس النسائية التقليدية بإيقاع بصري فريد. أما في الشرقية، فقد تأثر التطريز بطابع ساحلي، فيه ليونة الخطوط ونعومة الألوان، تعكس هدوء البحر وحركة المراكب. كل هذه الأنماط المتنوعة، حين تتجاور اليوم تبدو كخريطة حسّية للمملكة، تُرسم بالإبرة والخيط، وتشهد على غنى التنوع الثقافي وعمق الجذور التي تنمو تحت كل غرزة. لقد أصبح التطريز بمثابة هوية مرئية، تقاوم النسيان، وتُحاكي الماضي بلغة فنية تحفظ المكان والمرأة واللحظة في خيط لا ينقطع. رمزية اجتماعية لم يكن التطريز في المجتمع السعودي مجرّد حرفة تؤدى داخل جدران المنازل، بل كان مرآة لرحلة الناس وطقسًا يُرافق تحولاتهم، إذ كانت الأمهات يشرعن منذ وقت مبكر في إعداد “جهاز العروس” لبناتهن، متكئات على مهارتهن اليدوية ونفَسهن الطويل، فيغزلن بالغرز المطرزة دعواتٍ صامتة بالسعادة والستر، ويهيئن قطعًا مشغولة بخيوط ملونة وأقمشة محببة ترافق العروس إلى بيتها الجديد، وتُعبّر عن فخر الأسرة وذوقها وتراثها، فكان التطريز إلى جانب كونه مهارة، إرثًا عاطفيًا ينتقل عبر الأجيال، فالجدّات لا يكتفين بإتقان الغرز، بل يُحطنها بحكايات وقيم، يعلّمن الحفيدات أسرار الخيوط وتناسق الألوان، ويشرحن رمزية الزخارف التي تتكرر على أثواب المناسبات، وكانت كل غرزة بمثابة توقيع شخصي، وكل قطعة تحمل في طيّاتها أثر أنامل تعبّر عن الحب والانتماء. وقد تنوّعت أغراض التطريز بتنوّع المناسبات؛ فثمة ثياب مطرّزة للاستخدام اليومي، وأخرى للزيارات والاحتفالات الدينية، وبعض الأثواب المطرزة كانت تُرتدى خصيصًا لموسم الأعياد، ومع مرور الوقت باتت بعض الأنماط والغرز الخاصة تُشير ضمنًا إلى الحالة الاجتماعية، أو الانتماء القبلي، أو المناسبة التي يُرتدى فيها الزي، لتصبح الأقمشة المطرزة وسيلة للتواصل البصري بين الأفراد والمجتمع، وشهادة ناطقة على هوية المرأة السعودية، وأصولها، ومكانتها في نسيجها المحلي. تقنيات دقيقة يقوم فن التطريز اليدوي التقليدي على مجموعة من الغرز المتوارثة التي تُشكّل جوهر هذا الحِرَف العريقة، مثل غرزة “السلسلة” التي تُستخدم لإنشاء خطوط منحنية وانسيابية، وغرزة “الفرع” التي تُشبه الأغصان الدقيقة، وغرزة “السراجة” التي تُستخدم للتثبيت المؤقت أو الزينة البسيطة، إلى جانب غرز مركبة وزخارف هندسية متشابكة، وتتغير أنواع الخيوط المستخدمة وفقًا لنوع القماش والغرض من التطريز، فتُستعمل خيوط القطن في الأعمال اليومية، والحرير في المناسبات الخاصة، والصوف في الأثواب الشتوية، ومن بين أبرز أساليب التطريز التي تميّز المملكة، يبرز “التطريز البارز”، وهو تقنية متقدمة تتيح للخيوط أن ترتفع فوق سطح القماش، فتخلق أبعادًا بصرية مدهشة تضيف عمقًا وملمسًا ملموسًا، وتمنح القطعة حضورًا بصريًا فريدًا يجعلها أقرب إلى اللوحة منها إلى الثوب، هذا النوع من التطريز يتطلب دقة متناهية وصبرًا طويلًا، وغالبًا ما يُستخدم في القطع التي تُعرض لا للارتداء فقط، بل للتقدير الفني أيضًا. ورغم أن أدوات التطريز اليدوي قد تتفاوت من منطقة لأخرى ـ بحسب العادات المحلية والخامات المتوفرة ـ فإن ما يجمعها هو البساطة والدقة: إبرة، طارة، خيوط ملونة، ومقص صغير. لكن ما يُميز الحرفة حقًا هو اليد التي توجّه هذه الأدوات؛ اليد التي تملك الحس الفني والاتزان، وتُدرك التوازن بين التكرار والابتكار، فكل قطعة مطرزة تُعد عملًا فنيًا فرديًا لا يُشبه غيره، لا يُصنع على عجل، بل يُولد من بين ساعات التأمل والتركيز، ليكون شاهدًا على براعة متوارثة لا تتقادم. حضور متجدد في ظل التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها المملكة، لم تغب حرفة التطريز اليدوي عن المشهد، بل استعادت حضورها مع بروز الوعي بالتراث الثقافي، وظهور مشاريع إعادة إحياء الحرف التقليدية ضمن رؤية السعودية 2030، كما تدعم وزارة الثقافة والهيئات المعنية برامج التدريب والتسويق للحرفيات في المعارض المحلية والدولية، كما يتم تشجيع الشباب على تعلم حرفة التطريز كمهارة حياتية، وقد نجحت بعض الحرفيات في تطوير نماذج جديدة من الملابس المعاصرة باستخدام التطريز التقليدي، ليصبح جزءًا من الأزياء الحديثة، دون أن يفقد رموزه وهويته. وكانت ولا تزال هذه الحرفة بابًا واسعًا للتمكين الاقتصادي والاجتماعي للمرأة، حيث يمكن أن تصبح مصدرًا للدخل لكثير من الأسر، وقد ساعدت البرامج الحكومية، إلى جانب الجمعيات الأهلية، في تدريب النساء على تقنيات حديثة للتطريز والتسويق، مما أتاح لهن دخول الأسواق الرقمية وبيع منتجاتهن إلكترونيًا، وتوسيع قاعدة الزبائن داخل المملكة وخارجها، وأصبحت حكايات النجاح تتكرّر، من نساء بدأن بمشروع منزلي صغير، ثم وصلن إلى معارض عالمية، أو حصلن على جوائز من مؤسسات تراثية دولية. هوية وطنية أكثر ما يميّز التطريز اليدوي التقليدي في المملكة أنه لم يعد مجرد تراثًا نسائيًا أو فنا منزليًا، بل تحوّل إلى مكوّن من مكونات الهوية الوطنية، ترفعه المملكة وتوثّقه الجهات الثقافية، وتحفظ أنواعه ونماذجه، ويعد هذا الاحتفاء إشارة مهمة إلى أن الحرف اليدوية، والتطريز في مقدمتها، ليست ماضٍ يُستعاد، بل مستقبل يُصنع. إنها غرزٌ من ذهب، لا تروي فقط تاريخ الأقمشة، بل تُطري الوجدان الجمعي للمجتمع، وتخيط خريطة الذاكرة، غرزةً تلو أخرى.