في تجربة حمد العسعوس الشعرية ..

توازن بين البلاغة الكلاسيكية والرؤية الحديثة .

في زمن باتت فيه القصيدة أحيانا تكتب لتستهلك، ينهض صوت شعري استثنائي، لا ليضيف إلى ديوان العرب قصيدة أخرى فحسب، بل ليعيد إلى الشعر روحه القديمة: روح الرسالة حين يرسل إليك شاعر ديوانه، لا يرسل أوراقا فحسب، بل يفتح لك بابا إلى عالمه الداخلي، إلى رؤاه، وإيمانه بالكلمة، وطريقته في فهم الحياة. وقد كان ذلك تماما ما حدث عندما تكرم علي الشاعر والكاتب القدير حمد العسعوس بنسخ من دواوينه، كأنه يضع بين يدي سفرا من الحكمة المغناة، ورسالة مكتوبة بلغة الشعر، لكنها موجهة إلى العقل والقلب معا لم تكن قراءتي لتلك الدواوين مجرد تجربة أدبية، بل أشبه ما تكون برحلة تأملية في الوجود، والهوية، واللغة. فمنذ الصفحات الأولى، أدركت أنني أمام شاعر لا يتعامل مع الشعر كأداة ترف لغوي أو تزجية للوقت، بل كقضية، كموقف، كفن يحمل رسالة ومسؤولية تجاه الإنسان والكون إن هذا المقال ليس مجرد قراءة لأسلوب شاعر مبدع، بل هي محاولة للاقتراب من جوهر تجربة شعرية نادرة، ترى في القصيدة رسالة، وفي الشاعر شاهدا ومرسلا ومؤتمنا على الكلمة. من هنا، تنطلق هذه التأملات، لتسلط الضوء على السمات الأسلوبية والقيم الفكرية التي تتبدى في شعر حمد العسعوس، شاعر الرسالة والفلسفة. تتسم اللغة الشعرية لدى حمد العسعوس بخصوصية نابعة من توازن دقيق بين البلاغة الكلاسيكية والرؤية الحداثية. فهو لا ينجرف إلى الغموض ، ولا يسطح الفكرة في سبيل الموسيقى، بل يطوع اللغة لتخدم المعنى دون أن تفقد جماليتها، وتلمع موسيقيا دون أن تفقد صدقها الفكري في قصائده، يتجاور العقل مع العاطفة دون أن يلغ أحدهما الآخر؛ فالعاطفة متقدة، لكن مرشدة، والعقل متأمل، لكن غير جاف. كأن الشعر هنا تجربة عقلانية وجدانية في آن واحد يعتمد العسعوس على إيقاع داخلي لا يقيده البحر الشعري فقط، بل يتولد من تواتر المعاني، وتدفق الصور، وتناسق الحروف، ما يضفي على قصيدته بعدا سمعيا يلامس الذوق والوجدان يحمل شعر حمد العسعوس طابعا نقديا واضحا، ينطلق من إيمان بأن الشاعر ليس محايدا تجاه عصره، بل مسؤول عن مساءلته، وكشف اختلالاته، واقتراح رؤى جديدة للوعي في قصائده، لا يكون الشعر زينة لفظيه، بل حكمة تفكك العالم، وترتب فوضاه على إيقاع من الجمال العميق. العسعوس من أولئك القلائل الذين إذا نطقوا، أنصت الوجدان، وإذا كتبوا، استيقظ العقل من سباته إنه الشاعر الذي لا يكتب ليمدح أو يهجو، بل ليفكر، ليحاور الوجود، ويخاطب الزمن. وعندما يكون الشعر رسالة، لا يعود ترفا لغويا، بل يصبح سفيرا للروح، ونداء للعقل، وهمسا في أذن الوجود. وحين نطل على شعر حمد العسعوس، ندرك أننا أمام شاعر لا يكتب ليطرب، بل لينبه، لا ليزين الواقع، بل ليحاكمه بلغة الحق والجمال معا هو من أولئك القلائل الذين ينتمون إلى المدرسة التي ترى في الشاعر حاملا لهموم الإنسان، لا مراوغا على حبال الألفاظ. في نصوصه يتجلي الاتزان بين جمالية التعبير وعمق المضمون، فيصير شعره عين يطل منها القارئ على فلسفة الحياة، وعلى هموم الوطن، وعلى معركة الوجود بأسرها إن شعر حمد العسعوس لا يقرأ كما تقرأ القصائد، بل يتأمل كما تتأمل جداريات الفلاسفة، ومخطوطات المتصوفة. لأنه أدرك، بل أخلص لفكرة أن الشعر حين يكون رسالة، يصير خلاصا إن تجربة الشاعر حمد العسعوس لا تقاس بعدد الأبيات ولا بجمال الصور وحدها، بل بما تحمله من رؤية، وما تواريه من فكر، وما تبعثه من أسئلة. فهو من أولئك الشعراء الذين لا يكتبون من فراغ، ولا يتركون المتلقي على حافة الإعجاب البصري فقط، بل يدفعونه إلى حالة من اليقظة الوجدانية والفكرية، تلك التي لا يقدر عليها إلا الشعر حين يتحول إلى أداة وعي فطوبى لنا به، شاعرا لا يكتفي بأن يقول، بل يوقظ، ويضيء، ويترك فينا أثرا لا يمحى، كما تفعل النجوم في ليل بلا قمر.