في ديوان «غياهب ينسجها الوضوح»لنادية السالمي..

خيوط القصيدة المتشابكة.

تظل الكلمةُ إحدى أصدق الرهانات والاحتيالات الناجحة التي استطاع بها الإنسان أن يهزم الفناء، وينجو من فخاخِ العدم، وكأنَّ الإنسان حين أدرك محدودية وجوده الزماني والمكاني، فكِّر في الكتابة طريقةً وحيدةً لتوسيع هذا الوجود وتعميقه، وأظنه قد نجح في ذلك نجاحاً مبهراً، فكانت الكلمةُ، والشعرُ خاصةً ترياقَ خلوده. حفلت الساحةُ الشعرية العربية –والسعودية خاصةً- في السنوات الأخيرة، بأسماء مبدعة من الشواعر اللائي دخلن إلى ميدان الشعر الفصيح وأكدن جدارتهن واستحقاقهن الإبداعي، ويمكنني -وإن كنتُ أفضِّلُ ألاَّ أفعل- الاستشهاد بأسماء شعرية كثيرة قدمت في تجاربها الشعرية المختلفة شعراً مختلفاً في روحه وهويته النابعة من ذاتِ الأنثى المبدعة الشاعرة. كل تلك التجارب السابقة واللاحقة بها، كان لا بد لها من تجاوز عتبة محاولةِ القصيدة الأولى، والتي تفضي غالباً إلى الديوان أو المجموعة الشعرية الأولى، متجاوزةً كل تلك الهواجس والتوجسات والارتباكات التي قد تحد من إقدام الكثير من الشاعرات على الوصول إلى عتبةِ الديوانِ الشعري الأول؛ لذا يظل إصدار المجموعة الشعرية الأولى –بغضِّ النظر عن قيمته الفنية- نجاحاً كبيراً، واختباراً عسيراً على الشاعرة؛ بعيداً عن أي محاذير ثقافيةٍ أو اجتماعية فإنَّ النظرة إلى شعر الأنثى لم تزل عند فئامٍ من المبدعين والقراء مشوبة بفكرةٍ استعلائية ازدرائية تشكيكية، لها جذورها القديمة في الأنماط الاجتماعية، التي يبدو أنها ستظل راسخةً عند الكثيرين دون أدنى اعتبار لفكرة ومفهومِ الشعر وكونه إنتاجاً فنياً إنسانياً مشترَكاً لا يخضع إلا لمقاييسه الإبداعية الخاصة به والنابعة منه. في المجموعة الشعرية الأولى للشاعرة السعودية نادية السالمي، والصادرة هذا العام 1446ه-2025م، عن النادي الأدبي الثقافي بالطائف بالتعاون مع مؤسسة الانتشار العربي، والمعنونة بـ “غياهب ينسجها الوضوح”، تتضح في المجموعة الشعرية ملامح الأنثى الشاعرة، المؤمنة بإمكاناتها الإبداعية، القادمة بلغتها وتراثها وأحلامها وآمالها وكل تخوفاتها وتوجساتها، لتنسج منها خيوط قصائدها التي انتظمت في العنوان المنتقى للمجموعة، “غياهب ينسجها الوضوح”؛ وهو عنوان تبدو فيه المفارقة بين الغياهب المظلمة والممعنة في السواد وربما اليأس، وذلك الوضوح المرادف للنور والصباح والبياض والأمل، وهي تنسج أردية الغياهب، لكأنه الوضوح المفضي إلى الغموض، والسعة المنزويةُ إلى الضيق، والبوحُ القانعُ بالصمت. عمدت نادية في مجموعتها الشعرية التي تضمنت خمسة عشر نصاً شعرياً، على الشكلين العمودي والتفعيلي، وإن كانت الغلبةُ فيها عددياً للشكل العمودي، عمدت إلى تقسيم القصائد على أربعةِ أقسامٍ أو أنوالٍ -إن صحَّ الوصف-، وهي خيطُ الحرير، وخيطُ الكتّان، وخيطُ الصوف، وخيطُ القطن؛ ولا يمكن تجاوز هذا التقسيم دون أن تقدح في الخاطر صورةُ ارتباط المرأة بالنسج والحياكة بمعانيها وتصوراتها المختلفة على مدى الذاكرة الإنسانية، وقد أثبتت الشاعرةُ تحت كل خيطٍ من هذه الخيوط قصائدها النابعة من تجربتها الذاتية وقناعاتها ورؤيتها الإنسانية للموجودات من حولها، رافعةً رغم قتامة المشاهد أحياناً من منسوب الأملِ في النورِ والصبحِ القريب، تاركةً للقارئ مهمة استنتاج الأسباب التي استدعت هذا التقسيم الشعري، مع ملاحظة ما يمتاز به كل خيطٍ من خيوطها الشعرية الأربعة المنتقاة من مزايا الرقة والدقة والرهافة والقوة. يجدرُ بي سريعاً أن أشير إلى مقتطفاتٍ من هذه المجموعة الشعرية التي تشي بشاعرة متحققة، أولَت نصها الكبير من الجهد، والكثيرَ من التمحيص والمراجعة، من نصها الشعري “للمجاز سيرة”، تقول: وأمشي لحتفي بعذر القضاء ويمشي معي كلُ هذا الفضاءْ أربّي وراء الضلوعِ جوىً ينزُّ بحبر اليتامى بكاءْ وأرتقُ صوتَ الثكالى إذا تشقَّق من فرطِ حملي العناءْ .... كسرتُ عيونَ المرايا لئلا أخونَ وضوحي بكسب الضياءْ الشاعرة هنا تحمل على عاتقها آلام الآخرين، منتصرةً لها، ماضيةً بها ولو إلى حتفها، دون أن تفرِّط في حقيقة وضوحها التي تأبى خيانتها، ولو كان ثمنُ ذلك أن تكسر عيونَ المرايا وتمضي في رحلة الانمحاء والحتف، والقصيدة بمجملها لم تحد عن هذه الروح الإنسانية الشفيفة التي امتازت بها جُل قصائد المجموعة. بينما تقول الشاعرة في نصها “طفولة دكناء”: غداً تبكين من قهرٍ تمادى على الأكتافِ يا ليلى، وحلاّ إليكِ الجذعُ.. هذا الدمعُ أيدٍ فهزّي قدر حزنكِ، أو أقلاّ سيسقطُ ما يحيلُ الفكر نوراً وتنوراً على الأوجاعِ دلاّ ترفع الشاعرةُ هنا إلى “ليلى” الطفلةِ قصيدتَها هذه، مواساةً لها إزاء هذه الطفولة الداكنة المهدرة، التي لا تليق بطفلة تستقبل تباشير أيامها الأولى، إنها الطفولة المقموعةُ الموجوعة بالحروبِ، والفقر، والفقدِ، والجهل، والاستغلال، ولكنّ الشاعرة لم تعدم طريقةً لإحياء الأمل في روحِ ليلى المغموسةِ في أوحال اليأس والعدم، فهناك نورٌ لا محالة سيأتي من أقصى تلك الظلماتِ المتتالية. في موضع آخر من المجموعة الشعرية وفي نصٍ بعنوان “في سبيل الرضا”، تقول الشاعرة: نحن خلف السر، سرٌ غامضٌ آثَر العُريَ على سِتر العرايا ....... مسّنا من سوءةِ الدرب عمى يجرحُ الخطو.. ويجتر الوصايا ينزف العمرَ سبيلا للردى كي يموت الدمع شفاف الحكايا إنها بعض مواجع الأنثى الغامضة التي يبدو أنَّ قدَراً ما –تاريخيا أو اجتماعياً- قد كتب عليها ان تظل هكذا سراً مكنوزاً لا يجوز البوحُ به، يجتر الأوامر والنواهي والوصايا، بينما ينزف العمر قطرةً قطرة، ويمضي بحكايا تشفُّ عن جوهر المعاناة، دون أن يصغيَ أو ينتبه إليها أحد. أحب أن أختم هذه المقتطفات الشعرية، بهذه القطعة التي تمجِّد الحب، وتنتصر له، كونه وحده القادر على إعادة خلق الحياة في ثوبٍ جديدٍ، وصياغةِ نشيدٍ آخر للحياة بعد أن اهترأت أناشيدُها وأوشكت على الذبول، إذ تقول الشاعرة في نصها المعنون بـ “اكتئاب يهرول صاعدا”: أحبّي فقد يشتري الحبُ ثوباً جديدْ فبالحب ننسى اهتراء النشيدْ. * مكة المكرمة