من الفوضى إلى الدولة..

كيف قدّمت التجربة السورية فهمًا جديدًا للثورة؟

لِفترةٍ طويلةٍ، هيمنَ التصورُ القائلُ بأن موجة الاضطرابات السياسيّة التي مرت بها بعض الدول العربية أوائل عام 2011 مثَّلت ثوراتٍ. لكن ما آلت إليه الأوضاع في سوريا اليوم يفرض مراجعة دقيقة وإعادة نظر في مدى دقّة هذا الوصف على كلّ الحالات. فبعد أن هدأ غبار الميادين وتلاشت الهتافات الثورية، وبقيت بعض البلدان العربية في دوامة العنف الأهلي، سلكت التجربة السورية مسارًا مختلفًا أفضى إلى تجاوز تلك المرحلة والخروج منها. لذلك، بات من الضروري إعمال أدوات العلوم السياسية الدقيقة للتمييز بين الانتفاضات الشعبية التي لم تتجاوز حدود الاضطراب السياسي الكبير، والثورة التي تتحقق فيها قطيعة حقيقية مع الماضي وهدمٌ للأسس الاجتماعية والسياسية القائمة. وبما أن الثورة بمعناها النظري والتحليلي لا تُختزل في مجرد إسقاط رموز النظام، بل تتطلّب تفكيكاً جذرياً لبنى الدولة والمجتمع وإعادة بناء مؤسّساتهما من القاعدة، فإننا نجد في الحالة السورية نموذجاً فريداً يثبت صحة التوصيف العلمي للثورة دونًا عن بقية الدول التي بقيت في طور الاضطراب. تأسيساً على فهمنا لمفهوم الثورة، فإنها لا تقتصر—وفقاً لما توضحه ثيدا سكوكبول وغيرُها من المنظّرين المعاصرين—على مجرد احتجاجاتٍ شعبيةٍ واسعة أو إسقاط أشخاص من قمة السلطة، بل تشترط إحداث تحوّلٍ جذريٍّ وسريعٍ في بنى الدولة والمجتمع على حدٍّ سواء. هذا التحول ينبغي أن يكون مصحوباً بصراعٍ اجتماعي أو طبقي يعيد تشكيل العلاقات القائمة برمتها. بعبارة أخرى، الثورة الحقيقية لا تقف عند حدود استبدال النخبة الحاكمة؛ بل تنشد تحويلَ روح المجتمع نفسه وإعادةَ بناء أسس السلطة وهياكلها المؤسسة من جذورها. وعليه، فإن أيّ تحرّكٍ سياسيٍّ عريضٍ سرعان ما يتراجعُ عن مستوياته الأولى ويكتفي بإصلاحاتٍ جزئية أو تبديل واجهات؛ لا يرتقي إلى مستوى “الزلزال الاجتماعي” الذي ينزع جذور البُنى القديمة ويؤسس لواقع جديد. حين نطّبق هذا الإطار التحليلي على الدول التي تعرضت لاضطرابات سياسية ضمن السياق العربي في تلك الفترة، يتبيّن أن الحراك الشعبي، وإن تصدّر العناوين بمداه الشامل، لم يُفضِ إلى تحوّل بنيويٍّ عميق. ففي هذه الحالات، وعلى الرغم من سقوط بعض الأنظمة، ظلت أجهزة الأمن ومؤسسات الدولة الأمنية والاقتصادية والاجتماعية محتفظةً بمعظم قدراتها وبنيتها التحتية؛ إذ أُعيد تشكيلها صورياً من دون المساس بجذور شبكة المصالح السياسية والاقتصادية الراسخة. وهكذا، تقع هذه الحالات في إطار الاضطرابات السياسية الكبرى التي قد تؤدي إلى إصلاحاتٍ شكلية دون إحداث تفكيكٍ جذري للبنية القديمة، فتسود فيها حالة من الإبقاء على العمق السياسي دون تغييره. على الرغم من أن موجة الاضطرابات السياسية كشفت عن ديناميات متشابهة في تصاعد الاحتجاجات، كما رأينا في العديد من الحالات العربية الأخرى، حيث اقتصر التغيير على المستوى السطحي دون اختراق للبنى العميقة، فإن السياق السوري، وإن بدأ بانتفاضات مشابهة لهذه الحالات، إلا أنه سرعان ما اتخذ مساراً مختلفاً جذرياً. فقد برزت الحالة السورية كنموذجٍ استثنائيّ يعكس المعنى الحقيقي لمفهوم الثورة في سياقه النظري العميق. فبعد عقودٍ من الانقلابات العسكريّة التي كانت تعيد تشكيل السلطة من أعلى دون المساس بالبُنى الاجتماعية والاقتصادية العميقة، جاء حراك 2011 منطلقاً من الأسفل إلى الأعلى، من القاعدة الشعبية، وفكَّكَ—في ظل ظروفٍ استثنائية—مؤسسات الدولة الأمنية والإدارية التقليدية إلى حدٍّ فقد خلاله النظام احتكارَ العنف الرسمي. ولم يقتصر الأمر على السعي لإسقاط رموز النظام، بل أظهر هذا الحراكُ صراعاتٍ عرقية وطائفية وإقليمية دفينة، أدّت في النهاية إلى إعادةِ تعريف خرائط السيطرة وظهور كياناتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ قائمة بذاتها، تاركةً وراءها عقداً اجتماعياً وسياسياً جديداً لا يشبه الماضي. إن طبيعة هذا التحوّل الجذري، المنطلق من الأسفل، لم تخلُ من تكلفةٍ وجوديةٍ باهظةٍ وفوضى عارمةٍ عصفت بالكيان السوري. وقد تجلّت هذه التداعيات في المدن التي تحوّلت إلى رُكام، والانهيار المريع للبنية التحتية، فضلًا عن تشريد ملايين البشر من بيوتهم. ومع تفتت البُنى القديمة وظهور فاعلين جدد بأجندات متباينة، تعقّد المشهد السوري إلى حدٍّ استعصت معه فرصة إيجاد أيّ رؤيةٍ جامعةٍ للمستقبل. ومع ذلك، فإن هذه التداعيات المأساوية تعد تأكيدًا قاطعًا بأن الحالة السورية ثورةً حقيقية؛ وتجسيدٌ قاسٍ لطبيعة التغيير الثوري العميق، الذي لا يكتفي بتجميل الواجهة، بل يسعى إلى اقتلاع الجذور وإعادة بناء أسس المجتمع والدولة من رمادها. في خضم الصراع السوري المعقد، ومع استمرار المقاومة المسلحة ضد نظام الأسد، برز تباينٌ لافتٌ في مسارات الفصائل المتنافسة. فبينما انخرطت العديد من هذه الجماعات في صراعٍ عسكريٍّ ضيق يفتقر إلى رؤيةٍ سياسيةٍ استراتيجيةٍ واضحة تتجاوز الإطاحة بالنظام، عجزت هذه الفصائل عن تقديم بديلٍ سياسيَ متماسكٍ أو بناء شرعيةٍ تتجاوز السيطرة العسكرية. هذا الفشل في ترجمة الزخم الميداني إلى مشروعٍ سياسيٍّ يعود، في جزءٍ كبيرٍ منه، إلى غياب الفهم العميق لأدبيات العلوم السياسية التي تتطلب تجاوز منطق القوة البحتة نحو بناء المؤسسات، وتأصيل الشرعية، وتأمين الخدمات، وتوسيع المشاركة الشعبية. على النقيض من هذا الفشل البنيوي في تقديم بديلٍ سياسيٍّ جامع، برز على الساحة السورية مشروع دولة وظّف أدبيات العلوم السياسية، فكانت المحصلة تقديم مسارٍ واضحٍ للثورة. وقد استطاع هذا المشروع، الذي بدأ في إدلب عام 2017، أن يقدّم رؤية سياسية وعملية متسقة مع منطق الدولة الوطنية الحديثة وتؤسس لشرعية جديدة. هذه الرؤية تجاوزت النظرة الضيقة لدى الجماعات المسلحة الأخرى، والأيديولوجيات التي تركز على العنف والسيطرة العسكرية كسبيل أوحد للتغيير، لتتجه نحو توسيع آليات المشاركة الشعبية الحقيقية وتأسيس بُنى حكم محلية متطورة، تدير الموارد بشفافيةٍ وتنظّم مؤسسات مدنية تخدم المجتمع. وبهذا التوجه، لم يكتفِ المشروع الجديد بنزع سلطة النظام من الأسفل إلى الأعلى، بل سعى لإنشاء منظومة جديدة قادرةٍ على توجيه طاقات الحراك الشعبي نحو بناء نظامٍ مستدامٍ ومستقل. وقد ترتب على ذلك نيل الاعتراف والشرعية الدولية بسرعة بعد اسقاط نظام الأسد. إذاً، لا يجدر بنا تصنيف كافة الاضطرابات السياسية التي حدثت في بعض الدول العربية في تلك الفترة تحت مسمى ثورات، دون استخدام أدوات العلوم السياسية للتمييز بين “الاضطرابات السياسية الكبرى” التي لا تتجاوز تغيير الرموز أو الكيانات الظاهرية للسلطة، والثورات الحقيقية التي تحدث زلزالاً اجتماعياً يعيد هندسة البُنى والمؤسسات. ففي حين اقتصرت معظم هذه الحالات على استبدال الأشخاص دون المساس بالجذور العميقة للسلطة، اكتملت في سورياَ دائرة الثورة بمواصفاتها الكاملة: تفكيكٌ جذريٌّ للبنى التقليدية، وتكوينٌ لمكوّناتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ جديدة، وعقدٌ اجتماعيٌّ مُتحررٌ من ربقة الماضي. وبذلك، برهنت سوريا على أن الشرط الأساسي للثورة، بحسب نظريات العنف السياسي وغيرها، يكمن في تفكيك وإعادة بناء الهيكل الاجتماعي والسياسي، وليس في مجرد إسقاط رموز النظام. وفي الختام، إن ما ينتظر المجتمع السوري غداً بعد سنوات الصراع، وإن رافقته تحديات جسام وكلفة بشرية واقتصادية باهظة، يتجاوز كونه مجرد مرحلة انتقالية عابرة. بل يمثل أرضاً خصبة لترسيخ أسس الدولة الحديثة بكل ما تحمله الكلمة من دلالات نظرية وعملية عميقة؛ مما يجعل سوريا، من منظور العلوم السياسية، حالة دراسية لفهم ديناميكيات إعادة تكوين بنى الدولة وقدرتها على فرض سلطتها في سياقات ما بعد الثورة والصراع. *باحث في العلوم السياسية