إعلان بين الطرفة والحقيقة..

زوج روبوت في العراق.

سمعتُ عن إعلان غريب قد يكون من باب الطُرفة، يتحدث عن نقل تجربة جديدة في الأراضي العراقية. لم أستغرب في البداية، فأهل العراق أناس لطفاء، حلوو المعشر، رغم ما مرّ بهم من أزمات. والشعب العراقي يستحق أن نفرد له حديثًا آخر عن معاني الصبر والجلَد التي جسّدها، لكن لعل لهذا الحديث وقتًا آخر. أما الإعلان فكان يتحدث عن “زوج مطيع ولطيف يعمل دون كلل”، لكن موضع الغرابة والطرافة لم يكن هنا، بل في تكملة الإعلان: لأن الزوج المقصود هو روبوت , يقوم بكل ما قيل إنه تحتاجه المرأة من الزواج! وهذا قادني للتساؤل: ماذا تحتاج المرأة من الزواج؟ وماذا يحتاج الرجل من الزواج؟ وهل يصح الاعتماد على الروبوتات في الطب والتعليم ومناحي الحياة الأخرى؟ ربما يحتاج هذا النقاش إلى تفصيل أوفى في قادم الأيام. لكن لنعد إلى سؤالنا الرئيس الذي يدور حوله هذا الإعلان: إذا كان ما تحتاجه المرأة أو الرجل من الزواج هو مجرد خدمة وحديث وفضفضة، فبإمكان خادم أو خادمة أن يقوموا بهذا الدور بشكل كامل، بل ربما أفضل من روبوت أو آلة لا تشعر ولا تحس. لكن الزواج ليس هدفه الخدمة فقط، وليس حتى هدفه الأساسي هو الحفاظ على البشرية، وإن كان هذا جزءًا من أهدافه. ولا غرابة في انتشار مثل هذه المفاهيم بين الناس، فالناس - للأسف - أخذوا من مشاهير الفن والغناء والإعلام قدوات لهم. أصبحنا نرى في المسلسلات العربية والخليجية زوجة تصاحب وتخادن رجلاً غير زوجها، أو رجلاً يقيم علاقة بلا زواج، بل أصبح يُروَّج لفكرة أن الأبناء من الأفضل لهم أن يعيشوا بين آباء وأمهات منفصلين على أن يعيشوا مع والدين لا يحب كل منهما الآخر. بل أصبحنا نتعاطف مع امرأة تفكك أسرتها بعد عِشْرة سنوات لأنها “مال قلبها” إلى شخص آخر فتزوجته، أو مع رجل يهجر أبناءه ويشوّه سمعة زوجته بعد سنوات من العِشْرة لأنه اكتشف أن قلبه لا يحبها! والحقيقة أنني أعتذر للحب من كل هذه الترهات التي ينسبونها إليه. أصبح الزنا يُسمى حبًا، والغدر يُبرر بالحب، وعدم الوفاء يُعزى إلى غياب الحب. والحب براء من كل هؤلاء. الزواج علاقة عقلانية، روحية، عاطفية. وهو علاقة شرعها الخالق سبحانه وتعالى، لأنه الأعلم بحاجات مخلوقاته وطبيعة تكوينهم. فجعل الزواج عهدًا لا ينفك ولا ينحل بسهولة، بل جعله سكنًا ورحمة، وهدم هذا السكن أمر محرم، ولا يجوز اللجوء إليه إلا بالطلاق، وهو وإن كان حلالًا إلا أنه مكروه، ولا يُلجأ إليه إلا عند استحالة التفاهم وصعوبة استمرار الحياة. فما معنى ذلك؟ معناه أن الزواج في بدايته عهد بين شخصين، كل منهما يفضي للآخر، وكل منهما لباس للآخر. لا عورات للأجساد ولا للأرواح ولا للقلوب بين الزوجين. فإذا حصل الوصل والتواصل بينهما وحدث النفور بعدها، شُرع الطلاق كضرورة، لكن الطلاق لا يعني كشف العورات ولا هتك الأستار ولا نقض العهود. لذلك قال الله الحكيم العليم: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}. أما إذا تقاربت النفوس وانسجمت الأرواح، كان ذلك هو الحب الحقيقي، بل أعظمه وأطهره وأدومه. فالمحب يصفح عن زلات محبوبه، ويسعد بقربه مهما كان حاله: غنيًا أو فقيرًا، رفيعًا أو وضيعًا، مريضًا أو صحيحًا. فارتباط القلوب هنا كان مبنيًا على عِشْرة ومعرفة عقلانية. بعدها يأتي نعيم الزواج ولذته وسعادته. ومن هنا يتضح أن من يتهم الحب بأنه يبدأ من “النظرة الأولى” يظلم الحب كثيرًا. ما يحدث في النظرة الأولى مجرد إعجاب وميْل، وليس حبًا. لذلك من الخطأ الفادح أن نسمي العلاقات التي نراها في الإعلام “حبًا”، فالحب يتجلى في زواجٍ قام على ألفة الأرواح وانسجامها، ومعرفة حقيقية، واتصال ومعاشرة. حينها يُصدر العقل أحكامه، ويُصدقها القلب أو يكذّبها. فخفقان القلب في زواج الحب لا ينقطع، ولا يصيبه ملل أو فتور، وهذا هو نعيم الدنيا الحقيقي. لذلك، لا يمكن أن تكون الصور التي نشاهدها عبر الشاشات من حياة وزواج أولئك المشاهير نموذجًا صادقًا للحب والزواج. وما نراه من انفصالات وتراشق عبر وسائل التواصل إلا دليل على أنهم لم يفهموا معنى الحب ولا معنى الزواج ولا قدر العهود التي قطعوها. فهل يمكن أن يكونوا قدوة؟ حتما لا. وأخال أن مثل هذه الإعلانات التي تتحدث عن “أزواج روبوتات” ستتلاشى مع الأيام , لأنها مؤشر على بؤس الحياة ويأسها عندما اختلت فيها المشاعر وضاعت فيها قيمة العهود, فما وُلِدَ من رحم اليأس, لن يُكتب له بقاء.