الواحات التي أنطقت الرمل..

كيف تكتب المملكة روايتها من الحرف الأول إلى نيوم.

ليست الصحراء كما يظنها الغريب فراغًا ممتدًا من العدم، بل هي في الحقيقة وعاء للذاكرة، تحتفظ بما لا تحتفظ به المدن. وفي قلب هذه الصحراء، تنبض الواحات كجزرٍ من الوعي، حملت فوق ترابها البدايات الأولى للحضارة، وسكبت على صخورها الحروف التي كانت ستصبح لاحقًا لسان أمة. فالواحات لم تكن مجرّد تجمعات مائية تقاوم قسوة البيئة، بل كانت نقاط التقاء بين الزمن والمكان، بين الإنسان والرمز، بين الحاجة للنجاة والرغبة في الخلود. من العلا شمالًا، إلى نجران جنوبًا، مرورًا بتيماء ودومة الجندل، تمتد رحلة الحرف العربي كخطّ مستتر تحت رمال الزمن، لكنه لا يزال واضحًا لمن يقرأ الأرض بعيونٍ ترى ما خلف النقش. في جبال العلا، حيث تنمو أشجار اللبان والنخيل، تتحدث الصخور بلسانٍ عربي مبكّر، كأنها تُخبرنا أن الحرف لا يولد من الورق فقط، بل من الصخر أيضًا. لم تكن العلا يومًا مجرد محطة قوافل، بل مختبرًا لغويًا وثقافيًا، تشكّل فيه الوعي العربي، وتشابكت فيه خطوط الكتابة النبطية، اللحيانية، والعربية الأولى. وفي مدائن صالح، انصهرت التجارة مع الدين، وتداخلت أسواق البخور مع أسواق الفكر، وتحولت الحجارة إلى صحائف صامتة، تحفظ همس الذين مرّوا وكتبوا ليظلّوا. كانت العلا همزة وصل بين الشمال والجنوب، بين الشرق والغرب، ومعها سافر الحرف عبر القوافل، لا كسلعة… بل كهوية. حين ترك الملك البابلي نبونيد عرشه في بابل ليستقر في تيماء، لم يكن ذلك قرارًا شخصيًا معزولًا، بل اعترافًا ضمنيًا بقيمة ثقافية وروحية كانت تختزنها تلك الواحة البعيدة. في تيماء، لم تلتقِ الطرق التجارية فحسب، بل تلاقت فيها اللغات والأديان والأساطير، وتجاورت الأبجديات، واختلطت الأصوات. ظهرت نقوش آرامية وتدمرية ولحيانية على جدرانها، تدلّ على مجتمعٍ منفتحٍ ومتشابك، فهم منذ ذلك الزمن أن الحرف ليس زينة، بل وثيقة وجود. أما نجران، فقد كانت، ولا تزال، صوت الجنوب العميق. لم تكن مجرد واحة نخيل، بل منارة فكر وعقيدة. تعايشت فيها الديانات، من الوثنية إلى اليهودية، فالمسيحية، ثم الإسلام. حادثة أصحاب الأخدود التي خلدها القرآن، لم تكن مأساة روحية فقط، بل لحظة فارقة في التاريخ الثقافي للعرب، حين اختاروا الموت على تبديل المعتقد، وتركوا نقوشهم على الجدران كأنها صدى لأرواحهم. وقد ظهرت في نجران نقوش بالمسند والحميري، تؤكد أن الكتابة كانت وسيلة لتثبيت الهوية في وجه الزوال، وأن الحرف كان نداءً داخليًا أكثر منه وسيلة تواصل. وفي الشمال، حيث الجوف يلاقي الشام، كانت دومة الجندل تمثل النبض السياسي والاقتصادي للمنطقة. ظهرت فيها نقوش ومعابد، ونُظُم أولية للسكّ والنقود، وتحالفات مكتوبة، جعلتها مدينة موثقة بالحجر لا بالمرويات. وقد ورد ذكرها في نقوش آشورية، وفي السيرة النبوية، مما يدل على رسوخها في الوعي السياسي والديني، ودورها كحلقة وصل بين قلب الجزيرة وعالمها المتصل. لم تنشأ اللغة العربية فجأة، ولم يُلقَ بها وحيٌ جاهز من السماء، بل كانت ثمرة صبرٍ طويل، وتجربة لغوية نضجت في ظلال النخيل، وعلى أطراف الواحات. فكما تنبت النبتة في شقّ صخر، انبثق الحرف من خطوط كانت ذات يوم غامضة، ثم صارت مبينة. من النبطية إلى الآرامية، إلى اللحيانية والمسندية، تبلورت الحروف، وتحرّرت من رمزيتها القديمة، لتصبح صوتًا معبّرًا، وهوية مكتوبة. وفي هذا الامتداد الزمني، لم تكن الواحات مراكز إنتاج لغوي فقط، بل كانت أوعية للوعي نفسه. هي التي حفظت النقوش حين غاب الورق، وأبقت للإنسان العربي صورة عن ذاته، دون أن تمر عبر فلاتر المستعمر أو الرواية الأجنبية. واليوم، حين تسير المملكة نحو المستقبل، لا تبدأ من العدم، بل تعود إلى تلك النقطة التي بدأت منها القصة… إلى الحرف الأول. فـ”العلا” لم تعد مكانًا مهجورًا، بل منصة عالمية للحوار والفن، تُعاد قراءتها لا كسياق تراثي فقط، بل كمفتاح لفهم الإنسان العربي في صيغته الأولى. و”الدرعية” تحولت إلى معمارٍ يروي ذاكرة الدولة السعودية الأولى. أما “نيوم”، فليست فقط مشروعًا للغد، بل تجسيد لفكرة أن المملكة تُدير ظهرها للفراغ، وتواجه المستقبل بهوية تُدرك جذورها. ليس التاريخ ما يُكتب في الكتب فقط، بل ما يُحفر على جدران الصمت. وكل حجر وُجد في تلك الواحات، كان بمثابة صفحة، وكل نقشٍ كان سطرًا، وكل صمتٍ كان حوارًا. واليوم، تكتب المملكة فصولها القادمة بحبر مختلف، لكنه يستمد نبرته من ذاك الحرف الذي كتبه مسافر نبطي، أو شاعر بدوي، أو ناسك في تيماء. التاريخ لا يبدأ من القصور، بل من أطراف الرمل. من حجر صامت نقش عليه عربيٌّ أول حرفه، لا ليُخلّد نفسه، بل ليقول: “كنا هنا… وهذه كانت لغتنا.” وها هي المملكة اليوم تعيد رسم حروفها بوعيٍ جديد، يمشي من مدائن صالح إلى نيوم، بخطى واثقة، وبلسانٍ لا يزال يذكر كيف أنطقت الواحات الرمل.