
سلمى الغزاوي، نجمة من نجوم الأدب الأطلسي. ذات رحلة طويلة، ابتدأت بالصحافة الأدبية وكتابة الشعر والقصة، ثم الرواية. من إصداراتها في مجال القصة: «مقامات مخملية» وفي الرواية «تيلاندسيا»، «ذاكرة قاتل»، «أوركيديا سوداء».. وفي الشعر «الأبدية كرقصة التانغو»، تلا ذلك قراءات نقدية لأعمال فرنسية، قادتها لترجمة بعض الأعمال الشعرية والقصصية والرسائل إلى اللغة العربية، منها رواية «آخر يوم لمحكوم بالإعدام» لفيكتور هوجو، الترجمة الكاملة لديوان «أزهار الشر» لشارل بودلير، ورواية «السقطة» لألبير كامو، وكان آخر أعمالها ترجمة كتاب غوستاف فلوبير (رسائل إلى شاعرة) ، الصادر عن دار الرافدين، والذي وقعته مؤخرا في معرض الكتاب الدولي بالرباط. *ما أقرب أعمالك الإبداعية إلى نفسك؟ وأي من ترجماتك تعدّينها الأهم في مسيرتك؟ -أقول دوما عن مؤلفاتي وترجماتي: «كلهم أولادي!»، لكن أقرب رواياتي إلى قلبي «ذاكرة قاتل»، ربما لأنني عشت في حالة مخاض إبداعي عسير أثناء كتابتها، وكان الطريق إلى نشرها طويلا وشاقا، حيث رفضت من بعض الدور العربية لتناولها لموضوع شائك. وبالنسبة لترجماتي، كنت وما زلت متيمة بديوان أزهار الشر، ومعجبة بالعبقري شارل بودلير الذي تعرض لسوء الفهم والمنع، لذا حرصت على ترجمة أزهاره الشريرة ترجمة وافية وأمينة، ربما لأنني تشدني الكتب الممنوعة والمواضيع الصعبة والمتشعبة. التفرغ للترجمة *هل أصبحت الترجمة توجهك الإبداعي الأوضح في هذه المرحلة؟ وهل ستحل محل الكتابات المتنوعة التي عُرفت بها، أم أن لك عودة إلى الإبداع؟ -الترجمة في نظري إعادة إبداع لما جادت به قريحة الكتاب الذين أترجم لهم، بالاستعانة بلغتي الأم ونهجي التفسيري وثقافتي المزدوجة، لذا لا أعتبر أنني ترجلت عن صهوة الإبداع، بالعكس ساعدتني الترجمة على تطوير نفسي وأسلوبيتي وتقنياتي وتطويع لغتي، لكنني صرت أحبذ التفرغ للترجمة، ثمة الكثير من النصوص تنكتب بداخلي ومشاريع تنضج على مهل، لكنني أتريث قبل اقتراف نص إبداعي جديد. *ما الذي يدفعك إلى اختيار عمل معين لترجمته؟ وما الذي جذبك تحديدًا إلى ترجمة رسائل فلوبير؟ -ثمة أمور تدفعني إلى اقتراح عمل معين للترجمة على دور النشر، أبرزها اسم وفكر الكاتب، مدى تأثيره في تاريخ الأدب والمدارس الإبداعية، أسلوبيته، لغته، وأهمية إضافة عمله إلى المكتبة العربية، بالنسبة لمراسلات فلوبير إلى حبيبته وملهمته الشاعرة لويز كوليه، أذكر أنني كنت ذات ليلة باردة يسودها السأم البودليري عام 2021، أتابع برنامجا ثقافيا عن حياة ومؤلفات العملاق غوستاف فلوبير ومحاكمته الأخلاقية عن روايته الشهيرة «مدام بوفاري» ثم سهوت قليلا قبل أن تنبهني شقيقتي إلى حديثهم عن رسائله هذه، وقصة حبه المليئة بالمطبات لهذه الشاعرة التي كانت متوجة بالجوائز من الأكاديمية الفرنسية، ويرتاد صالونها الأدبي كبار الأدباء والشعراء، ومن بينهم فيكتور هوجو وبروسبير ميريميه.. وقعت في حب هذه الرسائل ما إن قرأتها، وبحثت عن ظروفها وسياقها التاريخي والأدبي، وبوسعي القول إنني أشاطر النقاد الفرنسيين اعتقادهم أن فلوبير هو أعظم مبدع كتب الرسائل، لأن رسائله تقدم أفكارا عميقة ومذهلة حول الوجود الإنساني، ورؤى صادقة للإبداع، الفن، النقد الأدبي، وفكرة أبدية الحب ومدى هشاشتها ونسبيتها، وأيضا أشاطرهم جزمهم بأنه على أي كاتب مبتدئ يود خوض غمار الكتابة أن يقرأ هذه الرسائل، باختصار، أردت أن أعرف القارئ العربي على وجه آخر مختلف لفلوبير الإنسان، الذي يشبهنا بمخاوفه، تردده، أحلامه، وتناقضاته.. عاشقة للأدب الفرنسي *إلى متى نظل نترجم من لغاتهم دون أن نجد من يترجم عنا؟ ولماذا لم تختاري حتى الآن عملًا عربيًا لترجمته إلى الفرنسية؟ ألم تجدي فيه ما يستحق؟ -اختياري ترجمة الأعمال الأدبية الفرنسية نابع من إجادتي للغة موليير، وبحكم دراستي التي غلبت عليها اللغة الفرنسية تبعا لتخصصي الجامعي، أيضا كوني منذ صغري عاشقة للأدب الفرنسي وجمالياته ومدارسه المختلفة، لذا أردت نقل بعض الجواهر الأدبية الفرنسية إلى لغتي الأم ومشاركتها القراء في العالم العربي الذين يمنعهم عدم اتقانهم للغة الفرنسية عن الانفتاح على ثقافات وإبداعات الضفة الأخرى، لا أعترض على ترجمة الأعمال العربية إلى اللغة الفرنسية، وقد سبق وترجمت مختارات من قصائد النثر لشعراء وشاعرات من العراق، لبنان، سوريا.. إلى اللغة الفرنسية، لكن ثمة صعوبات تحول دون ترجمة أعمال مبدعينا إلى الفرنسية، سيما الركود الترجمي في العالم العربي، وعدم اهتمام معظم دور النشر العربية بترجمة أعمالنا إلى لغات أخرى. *نلاحظ حضورك في المشهد الثقافي العربي من خلال الناشرين في مصر والعراق، ومن خلال المجلات الخليجية، لكن حضورك الشخصي يبدو خجولًا. متى نراكِ إلى جانب قلمك؟ -كتبتُ ذاتَ قصيدة ضمنتها ديواني: «تواريتُ في نهاية اللامنتهي، طرحتُ أعمالي للبيع في مزاد النسيان..». أفضل التواري في محرابي، والعمل المكثف بعيدا عن مصادر الإلهاء والأضواء. طريق الترجمة والإبداع طويل وصعب، لذا أحبذ أن أمضي قدما في طريقي، لأقدم للقارئ العربي أعمالا مميزة تليق بذائقته الأدبية وأترك أعمالي تتحدث عني، على أن ألبي بعض الدعوات بغية حضور باهت والتقاط صور للتباهي بأنني «كنت هناك»، ولأنني إنسانة ومبدعة انتقائية، أحرص على المشاركات النوعية في بعض الفعاليات الثقافية والمعارض والمهرجانات التي أرى أنها إضافة لمسيرتي. ليس على المترجم الحضور المكثف مثلما ينبغي على الشعراء والأدباء، كون المترجم هو الرسول اللامرئي، الذي لا بد من أن يتوارى خلف النص الذي يترجمه ويعيد إبداعه كما يليق بمؤلفه الأصلي. خطورة الذكاء الاصطناعي *كيف ترين وسائل التواصل الاجتماعي؟ هل هي داعمة للإبداع الحقيقي أم تهدد وجوده؟ وأين تقفين من الذكاء الاصطناعي، الأدب الرقمي، والأدب التفاعلي؟ -السوشيال ميديا لعبت دورا مهما في انتشار بعض الأسماء المبدعة ونصوصهم وجعلتها عابرة للقارات، فقط يلزمنا فرز النص الغث من السمين، لأننا صرنا نشهد انتشارا للأدب سريع الاستهلاك ولبعض الكتاب والشعراء «المزيفين» صنيعة السوشيال ميديا. الذكاء الاصطناعي خطير للغاية، كوننا أصبحنا نرى نصوصا وروايات كُتبت بالذكاء الاصطناعي ترى طريقها للنشر، وهذا أمر عبثي تقدم عليه بعض دور النشر التي لا تهتم بجودة ما تقدمه للجمهور، إلا أنني أعترف بأن أهم شيء قدمتْه التكنولوجيا لتجربتي الإبداعية هو إشراك القراء والزملاء في عملية التلقي والتأويلية بطريقة تفاعلية فورية، فاستفدت منها للغاية ومكنتني من تطوير خيال ما ورائي وميتا شعرية قوية تجلت في إعادة مساءلتي وتفحصي لنصوصي بغية جعلها أكثر جودة وواقعية. العالم الساحر للكلمات *يقول محمد شكري: “قل كلمتك قبل أن تموت فإنها ستعرف حتمًا طريقها”، فيما يرى عبد اللطيف الفرحان أن “الكتابة فرض كفاية”. ماذا تقول سلمى؟ ما معنى الكتابة لديك؟ -الكتابة ليست مجرد زلة قلم أو هواية أزجي بها وقت فراغي، بقدر ما هي الهواء الذي أتنشقه، والعيش بين الأوراق والعالم الساحر للكلمات هو قدري، وأمنيتي التي طال طريقي لتحقيقها، لكنها تحققت في الوقت المناسب. كتبت كثيرا عما تعنيه الكتابة/ الهبة السماوية، ويحضرني قولي ذات نص بعيد: «نحن لا نختار الكتابة، بل هي التي تختارنا». *فلوبير يقول في إحدى رسائله: “قراءة المقالات النقدية مضيعة للوقت”. هل تتفقين معه؟ كيف تنظرين إلى النقد الأدبي اليوم؟ -فلوبير كان لديه موقف واضح وحازم من النقد والنقاد طيلة حياته، سيما النقاد الذين يكتبون لتصفية حساباتهم مع بعض الأدباء، أو مجاملة كاتب سيء أو شاعر لا يفقه معنى الشعر. لم يحب فلوبير النقاد الذين يخضعون الكاتب أو الشاعر لمحاكمة أخلاقية بسبب ما ورد في كتبه، لذا تجنب كتابة المقالات النقدية زمنا، ثم لم يقو على السيطرة على قلمه، وكتب نقدا لاذعا وناريا ردا على بطريرك النقد الفرنسي «سانت بوف» الذي وصفه بالكاتب السوقي واللاأخلاقي بعدما اطلع على روايته «مدام بوفاري»، وأنا أتفق مع فلوبير في موقفه من النقاد غير الموضوعيين، لكنني لا أنكر أن هناك ثلة من النقاد يعطون كل ذي حق حقه وينتقدون الأعمال بموضوعية وحرفية. *بمَ تحبين أن تختمي هذا اللقاء؟ ما الكلمة التي توجهينها للقراء؟ -أود أن أشكرك أستاذ سعد على هذا الحوار الرائق الذي أسعدتني به، وأشكر المجلة الغراء (اليمامة) على ما تقدمه من مواضيع قيمة وهادفة، وعلى مواكبتها لجديد الأعمال العربية، وأتمنى أن يروق هذا الحوار الصادق السادة قراء المجلة ويجدوا فيه ما يحفز فكرهم ويلهمهم