المتنبي… دهشة لا تشيخ

ثمة شعراء يُقرأون، وآخرون يُعاشون. والمتنبي من أولئك الذين لا تمرّ بك أبياتهم مرور العابر، بل تعيشها كأنها كُتبت لك، ويُفاجئك عمقها كلما عدت إليها، كأنها تكتشفك قبل أن تكتشفها. لا شك أن عبقرية المتنبي وتفرّده، وشعورك بأنه يدهشك رغم تقادم الأيام، له ارتباط وثيق بتلك الأرض الشعرية الخصبة التي كان يقف عليها مع رفقائه الشعراء. كان للحرف سطوته، ولم يكن الرفاق مشغولين بأمر آخر غير الشعر في مواجهة الحياة، كما تفعل بنا اليوم الشاشات الذكية التي لا تستقر فينا بحال، وتنقلنا بسرعة من حزن إلى فرح، ومن اندهاش إلى فتور. صحيح أن المتنبي امتلك ناصية اللغة ولديه ملكة أصيلة وقدرة شعرية فذة، وهو القائل: آلةُ العيشِ صِحَّةٌ وشَبابٌ فَإِذا وَلَّيا عَنِ المَرءِ وَلّى أبداً تستردُّ ما تَهَبُ الدُّنـيا فيا لَيتَ جودَها كانَ بُخلا وفي جميع قصائده، يندر أن تخلو من معنى يأخذك إلى آفاق بعيدة. لست أتحدث بلغة النقاد، فلست ناقدًا ولا باحثًا، إنما أنا إنسان عادي، تصفعه ظروف الحياة فيأنّ، ويبحث عمّن يسلّي قلبه؛ فيقرأ القرآن تارة فيجد فيه سكينة، ويهرب إلى الشعر تارة، ومن له غير المتنبي في التقاطاته المذهلة لأدقّ تفاصيل الحياة؟ إن ساحة الشعر لم ولن تخلو، وخريطتها ما زالت واسعة، مليئة بالشعراء الرائعين حتى اليوم، لكنني أقصر حديثي على المتنبي، ولا أريد أن أتشعب. نعم، حين يرسل لي صديق أثق بذائقته بيتًا من شعره، أجدني أقف طويلًا أمامه. وحين تأخذني الحياة مباشرة إلى معنى من معانيه، أجد فيه مرآةً تعكس ما خفي في داخلي، رغم أن بيننا سنوات بقياس العمر، وذلك من أسرار نباهته وخلود قصيدته. فمعانيه سائغة، صالحة لكل زمان ومكان. وقد سبق تلك الأبيات في ذات القصيدة بقوله: ولذيذُ الحياةِ أنفسُ في النفسِ وأشهى من أن يُمَلَّ وأحلى وإذا الشيخُ قال:أُفٍّ، فما مَلَّ حياةً، وإنّما الضَّعفَ مَلَّا المتنبي لا يُقرأ فقط، بل يُستحضر كلما ضاقت الحياة أو اتسعت، وكأن شعره مرآةٌ كونية نرى فيها أنفسنا حين تغيب الرؤية. هو الشاعر الذي ترك لنا في كل بيت عمرًا كاملاً من المعنى. كلما تقدّم بنا الزمن، ازداد شعره فتوة.. وكلما تراجعنا أمام الحياة، تقدّم هو بكلمة. إنها العبقرية يا سادة!