طَيْرٌ يُخَاطِبُ دَوْحَتَهُ.

كان اللقاء به لقاء التّخفي ... نظراتٌ بعين القلب؛ لخيال وجهه المضيء بالسمت، ولقاءات دامت بيني وبينه، بين سطور مكتوبه و ما كان أنشأه في أروقة خزائن المكتبات العامة، فهي خير العيال لمن أراد الخلود باسمه في بطون الكتب ودنيا الأدب. ولم يكن لي شرفُ اللقاء، فإني بي طبعا حييا يغلبني ويجعلني أنزوي، عن كل لقاء يهمزني قبيله حدسي « إياكَ ... إياكَ ... ولقاءَ الدكاترة «. فظلّ الطالب على حاله القلقة، يراودهُ، يدارسه، يريد لقاءه، فيروح عنه ويجيء عَودًا ذَهَابًا، وفي ذاته حَارَ السؤال و مكمن العجب : ((يا لهذه النّصوص التي تكتبني ! مجيبة عن سؤالي، وناطقت بشعوري، أأنا عندها واقف وقفة المبهور، أم أنا واقع بحبالة بيانها وبلاغها ... يا لهذه النصوص التي يُشفى بها غليلي، وأبتَرِدُ بها من حرّ تصميمي))، فتمضي الأيام، ويصير الطالب على يقين أن اللقاء الحميم، ربما لن يكون كعبارة أبي الطيب (( ما خدمت عيني قلبي كاليوم ))، إنما لقاء كلقاء تلكم «الجمادات ذوات الأرواح» التي نسبها ينتهي إليه..(الكتب)؛ كما كان يسميها إبراهيم بن عبدالقادر المازني. أَوَلَيس الذي استفرغَ ماء شبابه للأدب؛ يكون هذا عنه بغريب ؟ ثمّ ألم يقل عن نفسه ذات مرة : (( من يفهمني ؟ ....... هل يفهمني غيري وأنا لا أعرفني ؟ )). إن الأديب الحيّ اللّمّاح الساميَ في مقصده وغاياته، سوف ينطق عمّا أسررتَ به لنفسك في ما كان قد خلا منك زمنه فممَ أنت تعجّب، وما قد كنتَ إليه مُتَشوِّفًا بنظرة الجديد فهذه دعواه منذ زمن؛ فأكْبرْ له صدر الجلالة والاحترام، وأَعْززْ مهيبَ المكانة له، قبل أن تنسى مكوثك الطويل تلميذا أمام عقوله الرائعة. فإن الوجود سيبقى بروح الحياة وبمعناها يضجّ هاتفًا، ما دام فينا أصحاب هَمّ، كأولئك الذين يلتفتون في ذهول كل حين، وكأنهم قد افتقدوا أجنحتهم التي تطير بهم إلى سماء العلو. وإني هنا لأذكر قولة أبي عمرو بن العلاء : (( كان الشعراء في الجاهلية يقومون من العرب مقامَ الأنبياء في غيرهم من الأمم )). أو كما قال هوغو : (( الشاعر نبي معاصر )). أجل ... سيظل الأدب مفعما قويا، حيّن يصرخ الشاعر من سَأَمِهِ الفني، ومن الملالة والضجر، وهو يقول بنبْره الغاضب :(( وابتداءاتُ شعري .. ويومي وأمسي .. وما في غدي لا جديدَ ولا من يدٍ تُوقظُ الليلة الغافيهْ كلّها متشابهةٌ هذه .. تلك .. ذاك .. وذي أين لي أن أفرّ من الأوجُهِ الكابيهْ ؟ كلّها متشابهةْ )). أجل ... سيظل أدبنا مفعما قويا، ينطق بالصدق، متى كان بيننا أدباء قضوا سواد حياتهم وفاء لتجاربهم الخاصة، وحمّلوا أنفسهم المركب الصعب لإنجازات حقيقة خالدة على مرّ الدهور، وكانوا متمسكين بأصالتهم أمام هبّات ريح الأدب وموضاتها العابرة. الذين هم لا ينخرطون بمعارك الطواحين، ولا تستخفّ عقولهم أمام الدعائية. إنهم في شُغل بحياة الإبداع، يربؤون بأنفسهم عن سيولة المواقف وتقلّب المبادئ، وهم يريدون أن يقفوا أمام قضية الإنسان، بما يرونه مناسبا لقناعاتهم وأساليبهم، مرضين سلطة ضميرهم الخاص. أجل سيظل ... ما دام غريبُ الأحياء، وقبلة الأدباء والشعراء، الأستاذ العلّامة : عبدالله بن سُلَيم الرَّشيد. وإنّي هنا لست في معرض البَرَم والتَّندر، فأنا مع الأيام أكاد أعتقد أن الأدب صار إلى سوقين : سوق العمل، وسوق الاستهلاك. فلذا؛ لست هنا بناقم على الزمان أن شحّ علينا بمثلكم، لِعِلميَ أن الزمان كعادته بخيل بسويّكم وشرواكم. أبا بسّام! والحرف يعجز عما يريده القلب كاملا تاما، فما حيلتي؟ فها أنذا قد كشفت عما يطّحن في نفسي ويدور، إنني هنا أود أن أقف أمامك موقفا، لعله أن يكون خير سِداد لمثل هذه المواقف المحيرة، ومعذرتي إليكم في ذلك؛ أنه يكفيني ويبسطني، ويجعلني في تمام الرضى، إذاما قلت للسائلين عنكم والمحبين في قادم الأيام: (( ما كان إبراهيم إلا طائرًا حطّ في دوحة العلامة : عبدالله الرشيد )).