التماهي مع الوقائع أم التسامي عنها!

من أزمان ولَّت، وللإنسان طرائقه في وعثاء الحياة، وحقيقة هذا المسار جعلت من الإنسان كائنًا مرنًا تجاه أنقاض الأزمنة؛ ثمة من يسمو بها، وثمة من يتزعزع منها، وثمة من يتكيف معها، وثمة من ينخرط مع بني جلدته لمطالعتها ومسايرتها والتصدي لها. تتطور الأزمنة، ويكبر الإنسان، وتتَعاظم طرائقه، وتظل نزعاته كما هي تجاه ما يُخيفه، كلنا سواء، ومسالكنا سواء، لأن نزعتنا ملتحمة ببعضها البعض مع اختلاف التوقيت. ومثل سائر الإنسانية أنا، أحاول التصرّف مع ما يحدث الآن، فهل أتصرّف ككاتب ينجو بالأدب وتزجية النوائب، أم كمتخصص في الإعلام يواجه الحقائق ولا يحيد عنها، أم كإنسان بسيط ينشد السلوى طيلة حياته؟ أوقن أننا في متاهة السلوك نتدحرج، في أيام مبهمة بين الحرب والتوقعات، فكيف جابه الإنسان هذا التيه طوال الأزمنة؟ بالأدب والكتابات؟ أم بالهلع والبحث المضني عن إجابات؟ أسأل هنا وهناك… ثمة مسالك متموضعة طوال الحياة بمسيرة البشر، عليّ أن أقتفيها الآن لأسكن، وأتفهم، وأرتبط بأشياء عنيدة في مواجهة مثل ما يحدث الآن من جهالة وتردد… إذًا، من الغالب في تصرفات الإنسان عبر الأزمنة؟ الغفلة عما يحدث فيها؟ أم فلسفته بما يوجب المعرفة الهالكة بلا جدوى؟ ما زلتُ أنضح بالكثير وأفتش عن الأعماق في مسيرة الإنسان الذي مرّ عبر الخوف والضلال والجهالة ونجا… هو أنا وأنت ونحن جميعًا… فما نحنُ فاعلون! كتجربة وجودية مماثلة نابعة من معاناته، رصدتُ في مذكرات فرانكل عن فترة الحرب العالمية الثانية منهجه العلاجي القائم على تحفيز الإنسان لإعطاء حياته هدفًا، ويتم ذلك عبر أحد المسارات الثلاثة التالية: إما عن طريق استكمال المهام الوجودية، أو عبر رعاية شخص آخر، أو من خلال استمداد معنى من المعاناة بما يحفظ الكرامة (Frankl, 1946)، مما يجعلنا اليوم أمام التماهي مع المعاناة مرة، واستمرارية الحياة بالتسامي مرة، وإيجاد الأسباب كل مرة، ولعلها مسارات لم تخرج عن إطارها البشرية منذ البدء… فلطالما رعى الإنسانُ الإنسانَ مع اختلاف الغايات، وتبوأ الأفراد مكانتهم بالعمل والمحاولة، واستمرت المعاناة بين رهبة وتكيّف… يدعم ذلك إدغار موران في كتابه المتعلق بمعالجة المعرفة للأزمات بقوله: “يخلق العقل البشري قوة غير عادية، ويمكن للأفكار التي ننتجها أن تأخذ حياة خاصة بها وتسيطر علينا في النهاية”، إذًا، هل الفكرة أن نسلك مسارًا صائبًا؟ أم أن تكون لدينا القدرة على التصرّف بقوة؟ أم أن نتخذ موقفًا محددًا فحسب لا يغيّر شيئًا، ولكنه كل شيء بالنسبة لنا! ما نواجهه عبر الأزمنة من وقائع، حصاده في البشرية إرادة البحث عن معنى في تبعات الحياة، واليوم، بينما نجابه مخاوف جديدة وتهديدات كثيرة، لا تزال الإرادة البشرية تلهمنا جميعًا على الرغم من كل النكبات. “ كل شيء يمكن أن يؤخذ من الإنسان عدا شيئًا واحدًا : وهذا الشيء الواحد هو آخر شيء من الحريات الانسانية - وهو أن يختار المرء اتجاهه في ظروف معينة ، أي أن يختار المرء طريقه “ Viktor E. Frankl