كالجبل الثابت يهتز و لا يميل ما هي حقيقتنا؟

“يمكن شرح أصعب الموضوعات لأبطأ الناس فهماً إذا لم تكن لديهم أي فكرة عنها بالفعل؛ لكن أبسط الأشياء لا يمكن توضيحها لأكثر الرجال ذكاءً إذا كان على قناعة راسخة بأنه يعرفها بالفعل.” عبارة قالها ليو تولستوي، أحد عمالقة و أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر. ما قابليتنا كبشر لتلقي معلومات و حقائق جديدة؟ ما هي الحواجز التي نضعها لعبور الأفكار و الحقائق إلى عقولنا؟ و ما هي الحقيقة أساساً؟ لفظ الحقيقة بحد ذاته له عدة تعريفات، فمنهم من عرف الحقيقة بالشيء الثابت يقيناً، و منهم من عرفها بمطابقة ما في الأذهان لما هو في الأعيان و غيرها من التفسيرات و التحليلات التي نبعت من العديد من الفلاسفة و المحللين. هي كلمة تكررت على مسامعنا منذ الصغر، كنا في طفولتنا نصطف صباحاً للاستماع إلى الإذاعة المدرسية و التي كانت لا تخلو من فقرة لعلها كانت المفضلة لدى الجميع ألا و هي فقرة “هل تعلم؟”. كانت المعلومات و الحقائق التي نستمع إليها مثيرة للدهشة في كثير من الأحيان، فللأخطبوط ثلاثة قلوب و للحوت الأزرق لسان يعادل وزنه وزن الفيل! هذه المعلومات تعد حقائق علمية، و يوجد غيرها الكثير من المعطيات و المعلومات المثبتة على عدة أصعدة غير العلمية كالدينية و التاريخية و في كثير من زوايا الحياة الأخرى، لكن ليس جميعها. الصعيد الشخصي و النفسي و ما يتمحور في عقل كل بشري منا ضرب بمفهوم الحقيقة عرض الحائط. الإنسان بطبيعته يبحث عن الانتماء، و لعل أول رابطة انتماء يتوجب عليه العمل على تشكيلها و دراستها بكل عناية و اهتمام هي علاقة انتمائه لذاته، و التي لا يمكن بغيابها إعداد أي رابطة انتماء أخرى مع غيره من البشر. أحد أعمدة بناء رابطة الانتماء للذات هي تحديد معاني الحقيقة، أن يجيب كل شخص على عدة تساؤلات هو مدين بها لنفسه: ما هي حقيقتي؟ ما أهميتها و قيمتها لدي؟ كيف أسمو بها و أنميها؟ كيف أحافظ عليها من التغيرات و السلبيات المحيطة من بشر ذو حقائق مخالفة لحقيقتي و ظروف قد تعاندني؟ الحقيقة و رغم ثقل معانيها هي ركيزة و مرجع لكل قرار و كل خطوة يتخذها الإنسان خلال تفاصيل حياته اليومية البسيطة، لا تختلف كثيراً عن فكرة المبدأ، و لا يتوجب أن يكون القرار مصيري ليعود الإنسان إلى معاني الحقيقة لديه لاتخاذه، بل على العكس، تظهر الحقيقة في أكثر المواقف تواضعاً و سهولة، تظهر في الخفاء لا في العلن. حقيقتك تظهر عندما تقدم معروفاً كرماً منك لشخص لا يمكنه تقديم أي خدمة لك، و عند مساندتك لغريب لا يعرف حتى اسمك، و عند عطفك على حيوان أو حتى شجرة، و عند همساتك الخافتة أثناء السجود. الحقيقة لا يدرك قيمتها إلا من استخلصها لنفسه، لأنه و بكل بساطة أنت غير ملزم بإثبات حقيقتك لكائن من كان، مجرد تواجد هذه الفكرة الخاطئة في ذهنك هو دليل على أن عقلك لم يتشبع بمفاهيم الحقيقة السليمة. الحقيقة هي أن لا يؤمن الإنسان بفكرة ما لأن شخصاً ما مؤمن بها، أو لأن الأكثرية مؤمنة بها، لأنه في هذا الحالة هو مهتم بأن يظهر و كأنه ينتمي إلى هؤلاء الأشخاص و مهتم أكثر بنظرتهم إليه، بينما هو غير مكترث بحقيقته أمام ذاته و انتمائه إليها على الإطلاق. لكن و كما هو معتاد، هناك شعرة رفيعة بين كل أمرين، كتلك المتواجدة بين عدم اهتمامي بإثبات حقيقتي لأي شخص و بين مرونتي العقلية في الاستماع إلى غيري و تعلم أمر ما قد يفيدني. البشر بطبيعتهم أكثر قابلية لتبني فكرة و رأي شخص ما إذا كان يشابههم على صعيد فكري بنسبة عالية حتى و إن كانت فكرته عن أمر معين خاطئة، بينما الشخص المختلف جذرياً عنهم فمن الصعب عليهم تقبل أفكاره حتى و إن كانت صائبة. تماماً كفكرة الغربال، لكنه معطوب، مما يجعلنا نستذكر أهمية أن يحدد كل شخص منا معاني الحقيقة و طرق تنميتها و أن لا يتركها للطبيعة البشرية التي قد لا تخدمنا في كثير من الأحيان. الله سبحانه و تعالى زودنا بعقول لنفكر و نقرر، لا لنلقي بحمل القرارات السيئة و الطباع اللئيمة على حمل الطبيعة البشرية بلا أي تعديل و تحسين، كما قال سبحانه و تعالى في سورة الرعد: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}. المرونة البشرية النفسية أكثر الأمور اللازمة لكل شخص لبناء مفاهيم صائبة عن الحقيقة، لأن تحديد كل إنسان منا لمبادئه و الحقائق التي يود بأن ترافقه في رحلة حياته لا يتعارض مع تحسين جودتها و إضافة دعامات تزيد من ثقتنا بها. هذه التحسينات قد تأتي من خلال القراءة في مجالات عدة، و من خلال مجالسة الأشخاص و خاصة المختلفين عنا فكرياً، و أيضاً من خلال مسيرة حياتنا بحد ذاتها و المواقف التي نمر بها. الأمر لا يتطلب العناد و الحدية، حقيقتنا لم تكن يوماً ورقة ختمت بالذهب و وضعت في خزنة سرية إلى أبد الدهر، بل هي أصفى معاني الإنسانية و العطف النابعين من عقلية راكزة و حكيمة تدرك قيمتها كنفس بشرية مكرمة ذات مبادئ ثابتة، تدرك تماماً متى تستقبل ما يأتي من غيرها من معلومات بكل تواضع و متى تدير ظهرها إلى ما لا يتفق مع حقيقتها بلا ندم أو تردد، كالجبل الثابت يهتز و لا يميل. الرياض يونيو ٢٠٢٥ م