عزة النفس التي فضلها العرب على الحياة !

كرامتك وعزة نفسك يجب أن تكون فوق كل اعتبار، حاضرة في كل حين، وفوق كل أرض، وتحت كل سماء، ولا تسمح لظروف الوقت والزمان والمكان مهما قست وسنّت رماحها عليك أن تجعلك تتنازل عن كرامتك أو عزتك أو قدرك أو مهابتك، فالموت أهون من ذلك، يقول المتنبي: من يَهُن يسهل الهوانُ عليهِ ما لجُرحٍ بميتٍ إيلامُ تمسك بعزّة النفس بكل حالاتك، وفي كل أحوالك، وأمام كل البشر، تمسّك بعزة النفس ولا تسمح لأي أحد مهما كان أن ينتقص منها قدر أُنملة، تمسّك بعزة النفس أمام الكبير والصغير، عند السيد والوضيع، أمام الشيخ والراعي، يقول أبو الحسن القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني: أرى الناسَ من داناهُمُ هانَ عندهُم ومن أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النفسِ أُكْرِمَا كرامتك وعزتك هي قدرك وتقديرك، ووجهك وجاهك، وحسبك ونسبك، فلا شيء في هذه الدنيا يستحق أن تضحي له ولو بالقليل من كرامة نفسك أو عزتها، عدا الخضوع لله رب العالمين فقط. لا تحنِ رأسك لأحد ولا تتذلل لأي أحد مهما كان سوى لله سبحانه، فقد لا تتمكن من رفع رأسك مجددًا أبدًا. قالت العرب: عزة النفس تضاهي جاه الملوك.. فهي جاه وحسب ونسب ورفعة وسمو وشموخ لصاحبها، ترفعه إلى عنان السماء، وتجعله يتبوّأ مكانًا عاليًا بين النجوم، مترفّعًا عن الدنايا والرذائل وأصحابها، عاليًا مهيبًا أمام نظر الأعيان والعوام، يقول الشاعر: يا عزة النفس كوني في العُلا قمرًا فالعيشُ دونكِ مثل الغصنِ إن مالا ما قيمةُ المرءِ إن ضاعت كرامتُهُ فضلُ الكرامةِ يعلو الجاهَ والمالا أهتم العرب ومنذ الأزل اهتمامًا منقطع النظير في الكرامة وعزة النفس، وتفوقوا على كل شعوب الأرض قاطبة في الأنفة والعنفوان وعزة النفس والكبرياء، فهم يضحّون بكل شيء إلا بالكرامة وعزة النفس، فيستميتون في الدفاع عنهما، ولو كلفهم ذلك حياتهم، يضحّون بأموالهم وأولادهم وقبائلهم وعافيتهم وأنفسهم وكل شيء لهم ولا يتخلّون أبدًا عن الكرامة والعزة والأنفة، يمقتون الذل والمهانة أكثر من مقتهم لأي شيء آخر في هذه الحياة، فواحدهم يقبل أن يموت كريمًا وبكل عزة، ويفرح ويسعد أيضًا بذلك الموت المشرّف، بل ويسعى إليه، ولا يقبل أبدًا أن يعيش ذليلًا بلا كرامة لحظة واحدة. إن عزة النفس أغلى ما يملك الإنسان في نفسه، فهي الكرامة داخل الروح، ترتفع بصاحبها سموًّا إلى عنان السماء، وتبتعد به عن سفاسف الأمور ومحقراتها، وتزيد من رجحان عقله وثقته بنفسه وإدراكه للأمور في هذه الحياة، وتزيد من معرفته بحقيقة الأشخاص والناس ومقدرته على إدراك ما في أعماقهم أكثر وأكثر وبصورة واضحة جلية. من يتمتع بعزة النفس ويصون كرامته من أن يجرح كبرياءها أي جارح هو إنسان يقدّر نفسه، ويعرف قيمة نفسه، وهو شخص قوي وصلب لا تهزه رياح ولا تُضعفه ظروف وأحداث، يبقى دائمًا شامخًا كالطود، قد يضحك ويملك توازنه في أحلك الظروف ويثبت باتزان وهدوء وفي داخله جحيم مشتعل يتلظّى، ولكنه ثابت شامخ متماسك لا يهزه أي شيء ولا يُضعفه أي موقف. إن جروح الكرامة يصيب بها المرء نفسه بنفسه، وهذا كلام في عمق الحقيقة، فالمرء هو من يجرح كرامته بنفسه، فهو من يرضى بذلك ويسمح به، في حين يستطيع أن يقول لا، ويضع خطًا أحمر مليئًا بالألغام والقنابل عند كل من يقترب من كرامته وعزته، ولا شك أن مالئ الدنيا وشاغل الناس أبا الطيب المتنبي قد تناول هذه المسألة منذ أحد عشر قرنًا مضت عندما قال: من يَهُن يسهل الهوانُ عليهِ ما لجُرحٍ بميتٍ إيلامُ فالمرء نفسه من يهين نفسه، وهو ذاته من يقبل إذلالها، وعندئذِ يسهل الهوان عليه ويعتاده، وهو نفسه من لا يسمح بذلك أبدًا ولو كان الموت دونه، ويصون كرامته وكرامة نفسه وعزتها ولو تصافح مع الآخرين بالسيوف من أجلها. * دكتوراه في الأدب والنقد