قراءة في ديوان الشاعر عبد المحسن يوسف ( نخيلك مثقل ويداي فارغتان)..

بين رؤىً سابرة ولمعات بارقة وتمثّلات محلّقة وتقرٍّ لظواهر الحس وهواجس الوجد واستكناه الروح.

بعيداً بعيداً، موغلاً في الحفر، دؤوباً في ملاحقة الأمواج والأثباج يتقمّص الكون ريحاً وشجراً وتراباً وسحاباً ، تسكنها الجوارح وتلتئم بها الجراح ، إبحارٌ بين الصخور وانزواءٌ خلف سديم الصخور ، وتمرّغٌ في معجم من مفردات الأغوار والأنهار والبحار . وتحولات عن برحات الكون إلى استنبات في أفنية الجوارح، تفاعلٌ وتقاطعٌ وتراسلٌ مع العشق والأرض والدخان ، وتجاوز لكينونة ماثلة إلى وجودية متخيّلة ، ومن خصوصيةٍ مُستباحة إلى صوفية متلفِّعةٍ بالغموض محلّقة بالإشراق (الأرض صرة عاشق و الماء نورسه الدخان) انتقال من افتضاح البوح الحارق إلى سطوع الشكوى الملتاع ، ومن غنوصيّة تتوحّد فيها الكائنات إل استلقاء في حضن الأوجاع واغتسال بعرق الفقراء، في مكابدة الموج ومصارعة الأنواء ، قفزاتٌ في فناء التاريخ و معانقة الأهواء ، واستنطاق لتمرّد الصاعدين في معراجه : اختطافٌ لبريق المعني من ذخائر الكتاب وإعجاز البيان (الإسراء و المعراج). تتناثرُ الأشياء ويتساقطُ الأحياء ، ويتزاحمُ القرامطة الصغار ، وتغيم الرؤى وتزدحمُ الدلالات ،ولكنها تفضي بكلّيتها إلى طرقات مستحيلة مهيبة على بوابة تحتشد فيها المعاني والدلالات التي تتفتق عنها مفردات الكينونة وملابساتها ووجودها: الأقمار والصحراء والأرض والرعود والدم حلمنا شرط له برق وحاشية الرعود. من يطلق الأرض ويفتدي دمها؟ توحد صوفيّ ، فثمة غنائية حميمة بوّاحة دون إسفاف ، عميقةٌ دون غموض ، تغوص في الأعماق ولا تتقوقع في شرنقة الذات ، فهي تطرّز انتماءها على صحائف الكون: الصحراء و الرمل والغيم وتتماهى مع قسماته وتتوشّح بألوانه : (أنا حزني رماديٌّ/ وحزن الناس رمّاني) وتتقاطع مع تفاصيله المُعاشة : (كتابي سيرة المقهى/ وملهى الخوف ديواني) تتعامد مع خلاياه وتفنى في أقبيته وتتصاعد في تجاويفه ، في صوره الفنية تتبدّى إشراقات الأمل ولوعات الألم ، وتتحلى وحدة الكون والكائنات : أقول كأنني أهذي وحيدا بين أغصاني يفتش شارع أعمى ضمير الشارع الثاني ويلامس بشفافية موغلة في أغوار الشعور، متجذّرة في دفء الفصول غزارةٌ في العطاء ،وسخاءٌ في البوح حيث تنبني المشاهد متخطّية الوصف العابر والتعبير السافر، إلى لحظة الإشراق ووميض التنوير : عدستها الشعريّة مسددةٌ مصوّبة في لحظة مصطفاة منتقاة، فتتساوق فيها المفردات مع نبض القلب وخفقات المشاعر ، خالصةٌ مستخلصة تكاد تتحول فيها ألفاظ الفعل إلى حركة محسوسة ملموسة، وصورة منظورة ومشهد معاش (تلمس ، يرف ، يطير ، تشعل ، تطفيء، ثم تزدوج الذات في تضاد (تشعل ، تطفيء) فتتولّد المفارقة ، وتبدو حروف الجر فاعلةً في المعنى شريكةً في الدلالة، منتزعة من معجمها المألوف مُدرَجة في سياقها المطلوب (إلي وعلي) ويبدو التكرار موقّعاً مدوْزَناً (يرفُّ قلي، قلبي يرفُّ) لَقطةٌ مصوَّبة في مرآة محدّبة ، تتنامى فيها الأبعاد وتتساوى فيها المسافات ، وتتعالى فيها الدرجات فتلتقط أدق الخلجات . (أما عليّ) فقصيدة يهوي بها على مكمن الجرح وموطن الألم، يمسّ فيها حوافّ الشغاف وأغوار الفؤاد، ، صرخات تترامى من بعيد عبر امتداد الياء أداة النداء البعيد فتتمثل المدافعة و المكابدة ، مكابدة الوجع ومدافعة الشجن وعمق الجرح واحتساء الجمر ، وتنهمر الصيحات مُنفلتةً من العقال ومتمردة عل قوانين التشكيل والتلوين (ياعلي ، ياعلي) تتقلب الألوان عن جمر الفراق ؛ فتكتسي بحمرة الشفق وقت المغيب والخضرة في ذاكرة الوقت والبياض في صحاف الأفول ، وتتمثّل الأصوات همساً مخنوقاً ، وجهراً مفجوعاً . يتحوّل النداء إلى لازمة إيقاعية يتكئ عليها نزيف الجرح وتداهمها اختناقات الحسرة ، تستغرق لحظة الفجيعة وتختزل لوعة الفراق , وثمة دفقات شعريّة وومضات وجدانية ، وخواطر بالغة التركيز والتمييز في خطاب هامس ، ومناجاة دافئة واشتياق حميم ، واقتراب من حرائق الاشتهاء وبوارق النزوة، ومرابض اللذة ولوامع النزوة، في سُعارها المشتعل وحرائقها المتّقدة في ومضة شعريّة ، عنوانها (أنثى النبيذ) في إطار حسي ملتهب يذكرنا بنزاريات القباني ؛ ولكن عل نحو متميز ، لا يسفر عن صراح كاسر وبوح فاضح ؛ بل أقرب إل المناجاة التي ترتقي سُلّما كونياً متعاليًاً يغلي في قدر الشهوة على نار هادئة واشتعال حميم ، بالغ السخاء في مشهد تتراسل فيه الأقمار والأفلاك والكؤوس والشفاه ، في كنائيّات كاشفة واستعارات فائرة ،ومشاهد موّارة . ثمة سلسلة من هذه اللوامع الوامضة، والإشراقات الساطعة، في مجازات بعيدة قريبة مُرهَفة مصطفاة ، وتمثيلات دالّة ، و في لقطات مُمَنهجة منضّدة مشرقة تجمع بين تجليات صوفيّة غنوصيّة ، وتشكُّلات حسّية وظواهر جامعة بين حراك حر في عجائبية معجبة ومعطيات دارجة (غيمة في الممر) وصور متراكمة ( في دمي جثة السوسنة ) فضلاً عن تأملات هادئة وأسئلة فائرة وحوارات كاشفة . ثمة ما يدعو إلى التساؤل : لماذا كل هذا التحديق في أغوار الذات ؟ ولمَ العكوف على قراءة أبجدياتها؟ وانعكاسات همومها وأوصابها وأشجانها على صحائف الكون طقوساً وأكواناً ؟ وامتياح من مذخور الذاكرة ومخزون الوعي ، وهواجس الذات ،هذه الخيوط المرقومة في صفحات منتزعة من سفر العمر، سلسلة من مشاهد ورؤىً في شريط ممتد تتداعى خيالاته وحواراته مع الجوارح والشجر والحجر ، تتقمّص الظواهر في تجلّياتها وانعكاساتها على مرايا الذات ، تستنسخ فيه أحوالها وتقلّباتها والتباساتها، وتتماهى في ورودها وأنوارها ، فهو يخلع مشاعره التي تاهت أنواؤها وهي تلملم أطراف الزمن وتتقمّص الدروب وتحلّق مع الأطيار وتتشظّى مع الأزمان عبر رؤى تتداعى فيلملم الشاعر أشلاءها ويعيدها إلى بداياتها في مقاطع يبدؤها بالحوار بين شطري الذات متسائلاً عن التحوّلات التي أفرغت الحياة من مضمونها في سلسلة من أساليب النفي ( بلا ليل ، بلا طير، بلا وعد نبيل) وفي سلسلة من التداعيات تتنامى فيها أوجاع الذات (الأحزان و الفراق و الضجر) ، تتنامى الأسئلة وتتشعب الهموم في إطار الاستنطاق والمساءلة للظواهر البكماء من باب التمني الذي وُسمت به مخاطبة الأشياء في البلاغة التقليدية. ثمة عودة مرةً بعد الأخرى إلى القصيدة الومضة القائمة على السؤال والمفارقة والطرافة والاستلهام والاستدعاء كما في نصوص، مثل (بضة) و(مطلع) و(الصبية) (تعريف) استراقات خاطفة وتوق ودهشة وانبهار هي امرأة من ضياء لها في الرشاقة عرس الفراشات وفي جسدي لسعة الكهرباء تقرير وتوصيف وآثار، لحظة شعرية داهمة سريعة الإيقاع عميق التأثير حسّية التعبير ، وتصريحٌ سافر واعترافٌ صادم كما في (القناع) وكذلك ثمة ومضات شعريّة تلوذ بأكناف الحكمة بذاتيّة بوّاحة وإعلان متحدٍّ وإنذار خفيٍّ كمأ في (اللسان). وأما التمثيل والتشخيص والتقمّص والتلبّس فهي مجتمعة منهجٌ تعبيريٌّ في شعرية اللحظة الومضة (ما الذي) سؤال يتفتّق عنه الموقف في آنيته وفجائيته: تمثيل في ثلاثة مشاهد وعناصر دلالية : المغني بنايِه وكمانِه وارتجافه ، ثم الحصان والبيان وطفل الندى والأقحوان : تمثيلات تصويريّة تنزاح عن المعنى وتقاربه وتخاتله ، وعلى هذا النحو يمضي في ومضاته يتمثل ويتصوّر ويرسم ويلتقط يمضي بإيقاع سريع كأنما يتقرّى التضاريس ، كثيرة هي الظواهر الجمالية كثرة النصوص وعناوينها، كما في قائمة المحتويات في هذا الديوان الذي تقتضي دراسته إلماماً واسعاً بآفاقه الرؤيوية والجمالية ، وهو أمر غير متاح في مثل هذه المقالة محدودة المساحة ؛ فنحن أمام ما يزيد على مئة وخمسة عشر عنواناً تحتاج دراستها وحدها بوصفها عتبات دلالية إلى بحث مستقل.