الرافعة التي تحمل الطبقة الوسطى.

تشير بيانات “هيئة الأمم المتحدة” إلى أن “المؤسسات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة” تشكل القاعدة الواسعة للاقتصاد العالمي. فهي تمثل نحو (90%) من إجمالي الأعمال التجارية عالميًا، وتسهم بحوالي (50%) من الناتج المحلي الإجمالي، كما توظف ما بين (60- 70%) من القوة العاملة في جميع أنحاء العالم. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل تعكس واقعًا اقتصاديًا واجتماعيًا عميقاً. ففي “الهند” أكثر من (63) مليون مؤسسة صغيرة ومتوسطة، توفر قرابة (110) مليون وظيفة. وفي “الاتحاد الأوروبي” تُشَغِّل هذه المؤسسات نحو (100) مليون شخص، مما يجعلها المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي. إن هذه المؤسسات أكثر من مجرد أرقام في التقارير الاقتصادية، بل هي العضلات الحية التي تحرك النشاط الاقتصادي في كل مجتمع، وتوفر الأمان الوظيفي لمئات الملايين من الأسر حول العالم. وتمثل “المؤسسات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة” العمود الفقري الحقيقي للطبقة الوسطى، فهي توفر فرص عمل مناسبة تتيح للأفراد والأسر الحفاظ على مستوى دخل مستقر ومتنام. هذه المؤسسات لا تكتفي بتوفير الوظائف، بل تخلق بيئة اقتصادية متنوعة تقلل من الاعتماد على القطاعات الكبيرة وتوزع المخاطر الاقتصادية. كما تعزز هذه المؤسسات ثقافة ريادة الأعمال والابتكار، مما يخلق دورة إيجابية من النمو الاقتصادي والتطوير المجتمعي. فهي تتيح للأفراد الموهوبين تحويل أفكارهم إلى مشاريع ناجحة، وتوفر مرونة أكبر في قطاع الأعمال، وتسهم في تطوير المهارات المحلية والخبرات العملية. حيث يتفق المفكرون الاقتصاديون بكافة أطيافهم على أن “المؤسسات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة” ليست ترفًا فكريًا، أو مجرد خيار يؤخذ أو يُترك، بل ضرورة حتمية للتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. فهي الرافعة الاقتصادية والاجتماعية التي تحمل الطبقة الوسطى، وتحميها من التآكل والاندثار، وتضمن توزيعاً أشمل عدالة للثروة، وتبني مستقبلاً اقتصادياً أكثر مرونة واستدامة للأجيال القادمة. في مشهد اقتصادي واعد، تواصل “المملكة العربية السعودية” تعزيز نمو قطاع “المؤسسات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة” بفضل جهود فاعلة تقودها “الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة” في انسجام تام مع أهداف “رؤية السعودية 2030” لبناء اقتصاد حيوي وشامل. فقد نما إجمالي التسهيلات الائتمانية المقدمة لهذا القطاع الهام في عام 2024 بنسبة (27.6%) ليصل إلى (351.7) مليار ريال، وهو رقم قياسي يعكس الثقة المتزايدة في هذا القطاع الحيوي. توزعت هذه التسهيلات بشكل متوازن، حيث حصلت المؤسسات متوسطة الحجم على (53.2%) من إجمالي التمويل، بينما شهدت “المؤسسات المتناهية الصغر” نمواً استثنائياً بنسبة (70%) لتصل إلى (42.3) مليار ريال. هذا النمو المتسارع يشير إلى نضج متزايد في النظام البيئي لريادة الأعمال في “المملكة”. كما شهد نهاية الربع الرابع من عام 2024 ارتفاعاً بنسبة (67%) في عدد التسجيلات التجارية، ليبلغ المجموع الإجمالي (1.6) مليون سجل تجاري. هذا الرقم يعكس الحيوية المتزايدة في بيئة الأعمال السعودية والثقة التامة في الفرص الاستثمارية. هذا ويبرز دور المرأة السعودية كأحد أهم ملامح التحول في قطاع “المؤسسات الصغيرة والمتوسطة” فقد تضاعف عدد المؤسسات النسوية خلال السنوات السبع الماضية، لتشكل اليوم (45%) من عدد مؤسسات القطاع. كما ارتفعت نسبة قيادة النساء للمؤسسات من (21%) في عام 2016 إلى (42%) في عام 2024، مما يعكس التحول الاجتماعي العميق الذي تشهده “المملكة” والذي يسهم في تعزيز تنوع الأسواق وزيادة الإبداع والابتكار. رغم الأهمية الكبيرة لهذا القطاع، فإنه لا يزال يواجه تحديات واضحة تتطلب حلولاً مبتكرة ومتكاملة. يأتي في مقدمة هذه التحديات فجوة التمويل المزمنة، حيث تجد العديد من مؤسسات هذا القطاع صعوبة في الحصول على التمويل الكافي للنمو والتوسع. كما تواجه هذه المؤسسات أعباءً إدارية وتنظيمية قد تكون مرهقة للرياديين، خاصة في المراحل الأولى من تأسيس أعمالهم. إضافة إلى ذلك، يغيب العمل التعاوني بين هذه المؤسسات، مما يفقدها الاستفادة من اقتصاديات الحجم ، ومن الخبرات المشتركة. ولمواجهة هذه التحديات، لابد من تطوير آليات تمويل مبتكرة تتناسب مع طبيعة “المؤسسات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة” كما يتطلب الأمر تعزيز التعاون بين هذه المؤسسات لاسيما تلك القابعة في اقتصاد الظل من خلال إنشاء تعاونيات الأعمال التي تتيح تبادل الخبرات والاستفادة من الموارد. في السابع والعشرين من يونيو من كل عام، تحتفي “الأمم المتحدة” باليوم الدولي للمؤسسات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، حقًا إنها مناسبة تستحق التوقف عندها، تأملًا في الدور الحيوي الذي تنهض به هذه المؤسسات في بناء اقتصادات وطنية مستدامة، واعترافًا بمكانتها كشريك لا غنى عنه في صُلْب عملية التنمية.