في رواية «عندما تصبح أنت العدو» لخالد عبد الرحمن..

عندما يختار الجندي بين الولاء للوطن أو للإنسانية !!

لفت نظري حين تصفحت هذه الرواية أنها تحوي مجموعة من الصور الضوئية عن الحرب العالمية الثانية، ولا شك أن هذا دليل على أن الرواية قادرة على الاستجابة لمتطلبات عصرها ، وإذن فإن هذه الرواية تحكي أحداث الحرب العالمية الثانية، تدور الأحداث في قرية ألمانية صغيرة، وجدت نفسها خالية إلا من النساء، إذ بعد أن هاجمتها قوة مظلية أمريكية، لم يعد بالقرية من الرجال إلا القس. ولذا كان على هؤلاء النسوة أن ينظمن أنفسهن  للدفاع عن القرية ، فيتدربن على حمل السلاح وعلى المراقبة، في محاولة لتفادي ما يمكن أن يحدث بعد إنتهاء الحرب، الحروب في الممالك القديمة كانت تنتهي بأن يستولى المنتصر على المال والنساء والأطفال، الذين يصبحون سبايا وأرقاء، تطورت النظم الإنسانية فألغت الرق، ولكن ما حدث في ألمانيا بعد الهزيمة في الحرب العالمية كان أشد من الاسترقاق، وقد رُوى ذلك في مذكرات “ إمرأة من برلين “ ،  كان على النساء أن يدفعن أجسادهن من أجل الطعام و الشراب، وتحولت النساء الجميلات إلى عِملة يتعامل بها الأهالي مع جنود الحلفاء، وهكذا تُستبقى الحياة، إذن ما حدث كان أسوأ من الاسترقاق، فللإسترقاق قوانينه التى تقلل من بشاعة فكرته.  اجتاحت جنود النازي أوروبا ، قالت إن ألمانيا فوق الجميع، وأنها تثأر لهزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وبدا أن الدول المُعتَدى عليها تمارس دفاعا عادلا عن النفس، ولكن هذه الدول حين انتصرت ارتكبت الكثير من الجرائم. أمريكا مثلا استعملت القنبلة الذرية في هيروشيما ونجازاكي، دون ضرورة ، فإن اليابان كانت قد استسلمت تقريبا، ولكنه عهر المنتصر في حياة لا تمنح المسالم مساحة آمنه للحياة الطيبة.  السؤال الذي تطرحه الرواية هو: إذا تعارض الولاء الوطن مع الولاء للإنسانية، أين يختار الجندى موقعه؟ مع الإنسانية أم مع المواطنة؟ وهل يُمنَح الجندى ترف الاختيار؟  اختار الكاتب رواية أحداث الحرب العالمية ليطرح تساؤلاته، وعندما يختار الروائي التاريخ ليعزف عليه فيجب أن يكون على معرفة واسعة بأحداث التاريخ. قرأت أن الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز قضى أشهرا قيل أنها بلغت عامين، يذهب كل يوم إلى مكتبة بلدية باريس، ليقرأ الصحف التي ظهرت في الفترة التي اختارها لروايته الشهيرة “ قصة مدينتين”. ولذا فقد أشفقت على كاتب عربي من الكتابة عن حرب تجرى في أجواء قريةٍ أوروبية، لكن الكاتب أقنعني بأن مجمل الأحداث التي رواها صحيحة في سياقها التاريخي، حتى أن ما يسمح الأدب للأديب بتجاوزه في هذا النوع من الروايات جاء منطقيا، وهذا يدل على حجم الجهد الذي بذله الكاتب في التحضير لهذا العمل الأدبي.  لجأ الكاتب إلى حيلة فنية بارعة، فهذا القائد العسكري قد فقد الذاكرة، وبالتالى فإن وجوده في قرية ألمانية بين النساء والأطفال سمح له بالتصرف بناء على جوهره الإنساني، إن الذاكرة عادة تشكل جزءا مهما من تصنيف الإنسان لنفسه، وبالتالي في توجيه عواطفه ومشاعره. وإذا كان المشهور أن الإنسان حيوان ناطق، فإن البعض صحح هذه المقولة بأن الإنسان حيوان له ذاكرة، فليس بين الكائنات من له ذاكرة إلا الإنسان، ولكل إنسان ذاكرته الشخصية التي تضاف إليها الذاكرة التي يكتسبها من مجتمعه، والتي تمثل تراكم التجربة البشرية عبر السنوات واستقرارها في الوجدان الجمعي للناس، وقد أجاد الكاتب رسم شخصية هذا الإنسان الفاقد الذاكرة، رغم بعض الهنات، وحيث أن فقدان الذاكرة نوع من المرض النفسي الذي يتفادى صاحبه مواجهة ما يخافه، بشكل غير شعوري، فإن بعض ما ساقه المؤلف من تصرفات قد لا تتناسب مع فقدان الذاكرة يُعتبر مقبولا في ظل السياق الروائي.  ماذا يحدث لهذا الكائن الذي استعاد حياته دونما ماضِ  والذي وجد نفسه  جريحا في قرية النساء ، فقدمن له المأوى والرعاية الطبية ، حتى شُفي لتحاصره الشكوك، ملابس  الجندي الألماني التي ارتداها وبطاقته التي علقها على رقبته لم تشفع له، هل هو جاسوس أمريكي يستحق القتل ثأرا لمن قُتل من رجال القرية؟ أم هو جندي ألماني جاء به الله ليدرب النساء على قتال الغزاة؟ لم تًعرف الحقيقة شهورا، بل إن من  ينتوين قتله قتلن آخرين في اللحظة التي كاد أحد الأسرى يتعرف فيها على الرجل، وهذا من براعة الحبكة الروائية، فالبعض مصرٌ على معرفة الحقيقة، ولكنه -في الحقيقة- لا يريدها لأن لها ثمنا، فإن كان جاسوسا أو قاتلا فلا بد من القتل وأهل القرية أصبحوا متعلقين به، وإن كان مواطنا فلا يريد أحد أن يتحمل إثمه. الرجل يتصرف بناء على إنسانيته، يريد أن يقاتل مع نساء القرية،  ويدرب الأطفال على الأعمال العسكرية، ويصنع جهازا للاستقبال، وثقافته الجديدة تبدأ بكتاب كفاحي لهتلر ، ولكنه لا يحب قتل الأسرى من الجانب الأخر ،  فهم بشر مثله ساقهم حظهم العاثر إلى هذه الجبهة أو تلك ، فإما انتصروا وإما انهزموا، و أخيرا وقع في حب قائدة النساء الجميلة، التي لم يتفتح قلبها للحب يوما، كانت لا ترى إلا ألمانيا، والمجتمع كله لا يري إلا ألمانيا ، فالحرب لا تعطي مساحةً للحب، أحبه الأطفال لطيبته وحرارة عواطفه حتى الطفل هانز الذي قتل الأمريكيون أباه أحبه بشدة، بل كان هو من ساعده على الفرار عند الهزيمة، ولكن الذاكرة بقيت له بالمرصاد، رفض كاهن القرية أن يعقد زواجه، لأنه قد يكون متزوجا في مكان آخر. وعلى أي حال بقي يلقى إعجاب الفتيات، وحبيبته تظفر بغيرة النساء في قرية ليس فيها مع النساء إلا رجل وحيد فريد.  ولم تتخلف الحرب ، هاجمت القريةَ فرقةٌ من الجنود الأمريكان، استطاعت النسوة والأولاد صد المرحلة الأولى من الهجوم، قاد الرجل الدفاع وأظهرت تكتيكاته نجاحا، وأصيب ففقد الوعي ودخل في مرحلة من الإغماء استمرت شهرين،  ثم بُعثت الحياة فيه من جديد ، وقُتلت حبيبته، قاتل بعد ذلك بشراسة، ولكنه عامل الأسرى بإنسانية ، الهزيمة أصبحت قدرا بعد إنتصار الحلفاء في كل الساحات،  فر مع بعض الزملاء ليتم التعرف عليه وسجنه بتهمة الخيانة العظمى، كيف يقاتل أمريكي مع النازيين؟ فيقتل جنود بلاده. الرجل بلا ذاكرة كان إبن الإنسان، حارب دفاعا عن الإنسان، كان ابن المجتمع الذي يعيش فيه حين حارب في صفوف الحلفاء و كذلك حين حارب في صفوف الألمان. دافع في الحالين من موقعيه عن الإنسان.   تكشف  الرواية عن الوجه القبيح الحروب، ليس المهزوم دائما بأقل قبحا من المنتصر، ولكنه تبادل للمواقع ، والحرب العادلة نادرة وخاصة في زمن الحروب الإليكترونية الحديثة.  لا شك أن المؤلف قد أدار بنجاح دراما إنسانية مؤثرة، ولكن العمل فيه عدد واضح من الأخطاء القواعدية والإملائية، رغم أن المؤلف قد قام بتشكيل كل الكلمات. اللافت للنظر كثرة استخدام التعابير القرآنية، ولا شك أن هذا أضفى على السياق جمالا، ولكن التكرار الكثير أظهر تكلفا مرهقا للقارئ وللسياق الروائي، من المتوقع أن تجري هذه التعبيرات على لسان الراوية، وهو المؤلف هنا، فالثقافة القرٱنية جزء مهم من ثقافة العرب، ولكن جريان هذه التعبيرات بشكل غير تلقائي على لسان متحاورين أوروبيين وأمريكيين أمر شوه السياق، إذ يعني أن المؤلف وضع العبارات على لسان أبطاله قسرا. وقد أدخله ذلك في بعض الأخطاء، كأن يذكر أن هتلر عامل اليهود بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم، التعبير القرآني يفيد بأن نساء اليهود كن يُتركن أحياء وهذا غير صحيح عند هتلر وإن صح عند الفراعنة.  كذلك فإنه من الصعب الإقتناع بأن أحدا قد فقد ذاكرته تمتلئ أحلامه بسيناريوهات الحروب الظالمة عبر التاريخ وبشكل توثيقي كما عُرض في السياق، وخاصة أنها معلومات ليست من المعهودة في ثقافة أمثاله.   توسع الكاتب في القراءة عن الحرب العالمية وانعكس ذلك بشكل إيجابي في السياق، لكن ثقافته الصحية لم تؤهله لوصف العناية التي تلقاها الرجل خلال فترة إغمائه. وقد كان يسعه أن يمرر ذلك دون تفصيل، ولكنه ذكر على لسان إحدى نساء القرية أنهن من يقلبنه في السرير ليتفادى قروح الجلد، وهذا انعكاس لثقافة الكاتب القرآنية، قياسا على ما ذكر في القرآن عن أهل الكهف، لكن أهل الكهف كانوا يمرون بمعجزة، وهذه لا تتكرر مع غيرهم، والعناية بأحد يُغمى عليه فترة طويلة لا تأخذه إلى بر الأمان إلا بالكثير من تفاصيل العناية التمريضية ولا تقتصر على العناية بالجلد قياسا على معجزة أهل الكهف. ولكن ولع الكاتب الزائد باستيحاء مواقفه من القرٱن أدخله في مسار غريب.  وقد كانت نهاية الأحداث كثيفة الإيحاء ، فالرجل الذي أصبح مثالا للإنسانية، فشفعت له وحمته من الإعدام، لكنها تركته في منطقة على الحدود بين مجتمعه الأصلي والمجتمع الذي عاش فيه إنسانيته، أراد المؤلف أن يتركنا قلقين على الإنسانية، خاصة وقد بات من الواضح أن المجتمعات وخاصة الغربية منها تحث الخطى نحو العنصرية المقيتة. وعلى كل الأحوال فإن بعض الهنات لم تؤثر على جمال الرواية و تشويقها و جودة بنائها خاصة مع اعتبار أنها قد جاوزت المئات الأربعة من الصفحات.