
كنت عام 1397هـ 1977م أعمل في مكتب الرئاسة العامة لرعاية الشباب بالأحساء، وكان المكتب ينظم برنامجاً ثقافياً لشباب الأندية الرياضية، ويدعو بعض الأدباء ورجال الدين لإلقاء محاضرات في الأندية وفي فرع جامعة الملك فيصل بالهفوف وبدأ المكتب بطباعة نصوص المحاضرات بعد إلقائها وتوزيعها. ولقي هذا العمل صدى طيباً، وكانت إمكانيات الطباعة بالأحساء محدودة، فذهبت للأستاذ محمد العلي رئيس تحرير جريدة اليوم بالدمام – وقتها- ورحب الرجل وعرفني بالاستاذ المشري الذي كان وقتها يعمل بالجريدة وقال بامكانك الاعتماد عليه، مع أني لم أكن أعرفه من قبل، سلمته نص المحاضرة، وطلبت طباعتها بمطابع الجريدة وكانت في حدود 25 صفحة، وطلبت طباعة 300 إلى 500 عدد وقدرت قيمة الطباعة في حدود ألف ريال، واتفقت معه على أساس أن تكون جاهزة بعد أسبوعين. عدت له في الموعد المحدد ولم أجده قد أنجز العمل فلمته وأعتقد أني قسوت عليه بالكلام – بعد سنة ازدادت معرفتي به وتوثقت من خلال الأصدقاء وعرفت مدى رهافة حسه وما يعانيه من أمراض أولها السكري. انتقل للإقامة بجدة وزيارات متقطعة للرياض أثناء مهرجان الجنادرية وغيرها. سمعت بإجراء عملية زرع كلية فزرته بالمستشفى بجدة، وبعد أشهر جاء للتنويم بالمستشفى التخصصي بالرياض لقطع رجله الأولى بعد أن تمكنت منه الغرغرينا فزرته فطلب مني أن يرى الأستاذ عبدالكريم الجهيمان وكان يعرف عمق علاقتي به. وفعلاً تمت زيارته بالمستشفى عام 1417هـ 1997م. وفرح وهو يستمع للجهيمان ومعنا الروائي عبدالله العبد المحسن وزوجته الدكتورة نادية الهواشم. تمكنت منه (الغرغرينا) فطلبوا قطع رجله الأخرى فهرب من المستشفى للبحث عن حل أفضل ولكن المرض لا يرحم، فيسر الله له السفر إلى أمريكا لعله ينقذ ما يمكن إنقاذه.. ولكنهم قالوا لقد تأخرت كثيراً فلابد من بتر الرجل من الفخذ، وهكذا كان، ومع عودته إلى جدة ذهبت مع الجهيمان لزيارته وفي عام 1420هـ 1999م أقامت جمعية الثقافة والفنون بالباحة حفل تكريم له ودعيت مع عدد من الأصدقاء وأعددنا كتاب (ابن السروي.. وذاكرة القرى) بإشراف الشاعر علي الدميني، وضم ملخصاً لسيرة المشري ومقابلة مطولة معه. وعرضاً لأهم أعماله الروائية والقصصية ومقالات لعدد من الأدباء والشعراء واختتم العمل بنماذج من رسوماته وقصصه القصيرة. زرته في منزله بجدة وسجلت معه في برنامج (التاريخ الشفوي للمملكة) لمكتبة الملك فهد الوطنية مرتين الأولى في 28/12/1415هـ والثانية 22/11/1416هـ. توثقت علاقتي به ودعاني للكتابة وشجعني رغم معاناته، فإذا زرته للاطمئنان عليه أصبحت أنا المريض وهو الطبيب لما يغدق علي من النصائح والاهتمام بالصحة وغيرها. وهو صاحب نكتة وطرفة لا تفارقه، ضعف بصره ومع ذلك استمر في الكتابة حتى وفاته رحمه الله. أول عمل صدر له ( باقة من تاريخ أدب العرب) صدر عام 1393هـ بتقديم أمير الباحة سعود السديري وأهدى العمل له بقوله : (( الاهداء إلى الذي شجعني وأولاني الرعاية التي لم أكن أحلم بها. وساندني في محنتي العصيبة، عندما كاد المرض يحطم جسمي ويهد أملي. إلى سعود السديري أمير الباحة”. أول عمل روائي صدر له واشتهر بروايته ( الوسمية) التي طبعت في دار شهدي بالقاهرة عام 1985م، كتب عنها الناقد عابد خزندار بثقافة اليوم بجريدة الرياض في 27 شعبان 1408هـ 14 فبراير 1988م بعنوان (( قال الراوي.. قال المشري.. الوسمية رواية تقترب من العالمية.. لابد من تقديم شكل جديد ليعترف الغرب بنا)). ترجم له الدكتور معجب بن سعيد الزهراني بـ ( قاموس الأدب والأدباء في المملكة العربية السعودية) ط1، ج3 قائلاً: (( عبدالعزيز بن صالح مشري.. روائي وقاص، ولد في قرية محضرة بمنطقة الباحة، توقف عن التحصيل الدراسي عند شهادة الكفاءة المتوسطة، بسبب ظروفه الصحية سنة 1388هـ 1968م. انتقل إلى الدمام، وعمل هناك موظفاً بجمرك ميناء الملك عبدالعزيز طوال السبعينيات الميلادية، مارس العمل الصحفي بصحيفة اليوم مصححاً، ثم محرراً ثقافياً، فمشرفاً على ملحق المربد الثقافي. انتقل إلى جدة وأقام بها بمطلع التسعينيات الميلادية. كتب القصة والرواية، وظل يطل على قرائه عبر زاوية صحفية بشكل شبه منتظم وعبر أكثر من صحيفة محلية. مارس الفن التشكيلي منذ وقت مبكر، وأقام معرضاً شخصياً واحداً بجدة عام 1991م، وكان يحسن العزف على العود، ترجمت بعض أعماله إلى بعض اللغات الحية.. وقد اعاقته ظروفه الصحية عن استكمال دراسته أو الانتظام في عمل وظيفي.. وقد تميز بغزارة الإنتاج، وتنوع الاهتمامات، صدرت له المجموعات القصصية التالية ( موت على الماء، أسفار السروي، بوح السنابل، الزهور تبحث عن آنية، أحوال الديار، جاردينيا تتثاءب في النافذة). وفي مجال الرواية صدرت له الأعمال التالية: ( الوسمية، الغيوم ونابت الشجر، ريح الكادي، الحصون، في عشق حتى، صالحة)، كذلك نشر (مكاشفات السيف والوردة) وهو كتاب يضم سيرته الإبداعية والثقافية.. اكتسبت أعمال المشري الروائية خصوصيتها وتفردها من تمحورها حول عالم الريف القروي (جنوب غرب السعودية) وهو يعيش ويعاني مراحل التحول، وصدمات الحداثة من دون أي قدرة على المقاومة، فهذا العالم التقليدي والعتيق في الوقت نفسه ظل منعزلاً عن العالم والتاريخ مكتفياً بذاته وحكاياته المتجذرة في ذاكرة المكان والإنسان إلى أن أصبح جزءاً من دولة حديثة أدخلته كغيره من البيئات في عمليات التنمية التي غيرت نمط حياته، وحورت قيمته، وولدت فيه كل التوترات المعتادة بين الريف والمدينة .. لعل لغة المشري تتميز باحتفائها بالتعبيرات الشائعة في الحياة اليومية سواء في الريف أو في المدينة، أما ميزتها الكبرى فتتمثل في نزوعها الأصيل إلى منطق المفارقات الساخرة التي تكسب النص جاذبيته بقدر ما تُغني المعنى، وتوسع مجال الدلالات، وتؤنس العلاقات فيما بينها وبين القارىء.. درُس أدبه في أكثر من رسالة جامعية، ومنها: صورة البطل في روايات عبدالعزيز مشري (1425هـ) والقصة القصيرة عند عبدالعزيز مشري (1432هـ))) توفي رحمه الله في مستشفى الملك فهد بجدة يوم الأحد بتاريخ 7/5/2000م وقد ووري جثمانه الثري في مقبرة الفصيلية بجدة. كتب عنه الكثير نختار منها ما كتبه الناقد سعيد الكفراوي الذي كتب في جريدة الرياض في 21/10/2010م (عبدالعزيز مشري: كانوا قد تركوني ومضوا!!) قال : (( .. ظلت القرية عند المشري وحتى رحيله تشبه ذاكرته المحتشدة بالموت وبالحفاوة بالحياة، وبالدور القديمة، وبالجدود الجالسين على رؤوس الحارات، وكلما أمعنت القراءة في هذا العالم القروي الفريد سواء في الرواية، الوسمية، الغيوم ومنابت الشجر، ريح الكادي، أو في مجموعاته القصصية: أحوال الديار، بوح السنابل، إلا وتكتشف أن هذا الكاتب قدم عالمه الفريد المتخيل وأحسن وفادته، وكتبه بما يليق بقرية تخومها الصحراء، يحكمها ذلك العرف القدري من التقاليد القديمة.. أصل إلى الفندق، يستقبلني بحفاوة الأطفال آخذه بحضني.. كم شف وغدى نحيلاً.. أسأله، كيف الأحوال يا فنان، يجييني بكبرياء: تمام.. دمى غستله اليوم في المستشفى صباحاً، وقلمي عبأته قبل قليل بالحبر، ثم يطلب مني: اريد أشوف صنع الله إبراهيم.. كم أحب صنع الله.. ولأن صنع الله يسكن في آخر دور من عمارة عالية والبيت ليس به مصعداً يواعدنا صنع الله في حديقة الميري لاند، ونلتقي، تكلم مشري عن الأمانة الصفة التي يتميز بها، كان سعيداً ذلك اليوم مثل طفل، وبرغم دورة الزمن واختلاف الأيام والراس التي وخطها الشيب إلا أن هذا اللقاء لا يفارقني . . عليه رحمه الله”. وبعد عشر سنوات من رحيله تحيي ( ديوانية الملتقى الثقافي بالقطيف) الذكرى العاشرة لرحيله، وتصدر مجلة غصون الالكترونية الصادرة عن ( منبر الحوار والإبداع) 28/5/2010م يشارك بها كل من : نجيب الخنيزي، محمد العلي، فوزية أبو خالد، عبدالله العبد المحسن، محمد الدميني، أحمد مشري، محمد القشعمي، قينان الغامدي، حسن النعمي، معجب الزهراني، حسن السبع، عماد عبدالباقي. ويصدر أصدقاء المشري أصدقاء الإبداع مجموعته القصصية، ثم مجموعته الروائية بمجلدين يناير 2003 وقال مقدما مقدمة الجزء الأول من المجموعة الروائية علي الدميني وأحمد مشري: ((.. في هذه الوقفة نشعر بشيء من الغبطة في إنجاز صف وجمع هذا الجزء ودفعه للمطابع، بيد أننا نشعر بالكثير من الأسى لأننا سنفتقد الحضور اليومي لعبدالعزيز، حيث كنا نتحسس وجوده معنا، يتابع التصحيح ويشاركنا الضحك والألم، أمام بعض المواقف والاستشهادات، ويشدد محاسبته لنا، إن تساهلنا في علامات الترقيم ولذا فإننا نعتذر لروحه الطيبة، وننشد تسامحه مع ما يمكن أن يكون قد سقط منا سهواً أثناء المراجعة لتلك العلامات. في هذه الوقفة التي أردناها قصيرة وفي موقعها المحدد، نشعر أن الواجب الأخلاقي، يدفعنا لأن نعبر عن عميق شكرنا للأصدقاء : الأستاذ سعيد العنقري لدعمه المالي لبدء مشروع إعادة طباعة الأعمال الكاملة، وكذلك للأستاذ الشيخ عبدالكريم الجيهمان وللاستاذ محمد القشعمي لجهودهما الكبيرة في العمل على استمرارية تمويل هذا المشروع الذي نتمنى أن يكتب له البقاء ليغطي كافة إنجازات الفقيد الفنية والمتعددة. - اعتبره الدكتور معجب الزهراني في ( موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث.. نصوص.. مختارات ودراسات) المجلد الرابع (القصة القصيرة من جيل التحديث، واختار له قصة (عنترة ابن رداد). واختار الدكتور منصور الحازمي له في المجلد الخامس (الرواية) رواية (الحصون) من جيل التحديث. - واختار له الدكتور عبدالرحمن الأنصاري في المجلد السادس (السيرة الذاتية) (الكتابة والقرية) من جيل التحديث. قال عنه الأستاذ محمد العلي: “.. لا أذكر أن المشري خلال أحاديثنا اليومية طرح قضية حياتية عادية أو همّاً ذاتياً.. كان دائماً يطرح السؤال عن المفاهيم. كانت طاقات المشري تنبع عفوياً من اتساع موهبته.. فهو عازف عود وهو فنان تشكيلي وهو روائي ولم يكن أي من هذه الفنون يستوعب نشاطه أو يشغل طموحه عن التفكير في الأمام دوماً. وهو (المقاوم) فقد كانت الكآبة تزأر من حوله.. ولكنه غضّ سمعه عنها وراح بمرح معاند يسخر بأمراض متراكمة تنوء بها أشد الإرادات صلابةً وتفاؤلاً.. يقول الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح: لا يموت الشهيد ولا العبقري سوى مرةً حين يولد ثم تظل الحياة ترافقه في بروج من الضوء مكنونة في ضمير الزمان وفي رحمة الله .. “ البئر المستحيلة، ط1، ص363. - ويختار له الأستاذ علي محمد العلي في ( أدب السيرة الذاتية) مقطع عن معاناته مع الغسيل (الديلزة) يقول : (( إنني أحزن كثيراً، وأبكي كثيراً، في أيام أكون تحت وطأة الغسيل الدموي، الكلوي، يشتد بي الألم والعزلة وعزاء الذات، وأدفن رأسي تحت الغطاء ثم أبكي طويلاً.. )). ويختتم العلي حديثه عن المشري (1955- 2000) من خلال سيرته الأدبية ( مكاشفات السيف والوردة) بقوله: (( عرفت المشري شخصياً، لسنوات طويلة، فترة الشباب والعنفوان. إنه ليس من الأشخاص العاديين الذين تمر علاقتك معهم بشكل عابر، وإنما هو من النوع الذي يزرع بداخلك دون قصد، معنى الصداقة الحقيقية والإنسانية والتواضع وحب الخير، كنت أنذهل من قدرته على الصبر والتحمل لتلك المعانات الطويلة التي مر بها لأكثر من ثلاثة عقود! أن يموت الإنسان بشكل تدريجي هو الأقسى بلا شك؟ من مرض السكر، إلى فقد النظر والتوازن والغسيل الكلوي لسنوات، إلى بتر الساقين.. معاناة بلا حدود، لامسنا بعضاً منها في هذه السيرة لكن مع ذلك استطاع من تلك المعاناة الرهيبة، أن يتشبث بالقلم والكتابة، وصنع المستحيل، ليبقى ذلك الشريان الإبداعي الإنساني الجميل، الذي أقام بروحه، يمده بالحياة والأمل، ولعلنا هنا ندون ما كتبه صديق عمره المخلص الشاعر علي الدميني عنه (قصيدة لذاكرة القرى): مثلما سيظل الغريب على (محضرة). سيظل ابن مشري على نفسه في البيوت التي نبتت من عروق الجبال. وسيسألها عن فتى ذاهب لحقول البدايات. حيث تسيل ورود الطفولة. فوق عيون الحصى.. مثلما تتنامى على شجرة.. الخ. وأخيراً أذكر زيارة أحد أبناء بلدته قبل سبع أو ثمان سنوات معرفاً نفسه بأنه مذيع بالتلفزيون وأنه يدرس دراسة عليا وعرف بوجود بعض انتاج المشري لدي وهو محتاج لها، سلمته ملف شامل لما جمعته عن المشري.. وعدني بتصويرها واعادتها.. ولم أره بعد ذلك.