العلاَّمة الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان كلُّ أولئك.

تجعل موسوعيَّة الشيخ الدكتور عبد الوهاب أو سليمان من المستحيل الإحاطة بجوانبها، وأعجز عن حتى مجرد التفكير في التطرُّق لجوانب علمه وفقهه وآثاره التي طبَّقت الآفاق، وهو المجدِّد المجتهد، أمام من هم على ذلك أقدر، لأعرِّج على ما تشرَّفت به من معرفة الشيخ الدكتور منذ عام 1421حين وصلت إلى باب داره برفقة الدكتور ناصر الحارثي رحمه الله، للاستئناس بما لديه عن مسجد البيعة، في ضوء رأي فرع وزارة الشؤون الإسلامية بشأن إعادة إنشاء المسجد وتوسعته بضم أرض فضاء مجاورة له، واقتراح سمو الأمير سلطان بن سلمان رئيس مؤسسة التراث على معالي وزير الشؤون الإسلامية أهمية الحفاظ على المبنى القديم، والذي يمثل تراثا عمـرانيا متميزا يعود إلى قرون مضت، وهو ما تم الأخذ به بحمد الله. ومعروف ما للشيخ الدكتور من علاقة بالمسجد تمثَّلت في اكتشافه والدكتور القدير معراج مرزا الحجر التاريخي الثالث الذي يعد وثيقة مهمة في تاريخ مسجد البيعة. كنت متهيبا للقاء ذلك الفرد العلم، ووراء الباب كان هو بقامته الشامخة وابتسامته العريضة، وأنزلنا في داره منزلاً كريمًا وقام بنفسه وبتواضع غير مصطنع بضيافتنا، وخرجنا مجبوري الخاطر علمًا وإنسانيَّة. قلت التواضع! نعم، والزُّهد أيضًا الذي كان من أبسط ملامحه نأيه عن زخرف الفنادق وترف السيارات الفارهة. استمرت العلاقة التي أدين لها فيها بالجميل، وتشرَّفت بالعمل تحت توجيهه على إصدار كتابيه عن «المسعى، المشعر والسوق» و «باب السلام، عنوان أمة رمز حضارة». وكان حرصه ودقَّته مما يتعلَّم منه من ينشد الإتقان في متابعةٍ حثيثة جمَّة الأدب في التوجيه والتنبيه، وهنا أذكر أنه رحمه الله لم يتقاضى شيئا عن الكتابين، بل كان يحرص وهو المتفضَّل، على أن يدفع للناشر مقابل أي نسخ إضافية يحصل عليها. وهنا أسرد ما منَّ به من كلمات حين تلقيه النسخة النهائية من كتاب باب السلام حيث قال ما تقر به النفس شكرا له وعرفانا، أذكره ليس ثناء على الذات وإنما للعرفان بالمثني والتعريف بنموذج من أدبه وأسلوبه: «أود أن أعبر لسعادتكم عن مشاعري بالعبارة المأثورة (أنجز حر ما وعد)، فقد تسلمت اليوم الثلاثاء 28/9/1434 كتاب باب السلام، وقد قضيت معظم الوقت في الاطلاع عليه، وتصفحته سريعاً، والواقع أنه أخرج إخراجا يثلج الصدر فجزاكم الله خير الجزاء، وأثابكم أعظم الثواب على جهودكم المشكورة، لسان حالي كما يقول الشاعر: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهنَّ فلول من قراع الكتائب .. كان بحق هدية العيد، فالشكر لسعادتكم، والدعاء لكم بالتوفيق الدائم، وكل عام وأنتم بخير». أكرم الله فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان بتقديرٍ عميمٍ في الدنيا لعل من أبرزه عضويَّته في هيئة كبار العلماء، وحصول كتابه «باب السلام في الحرم المكي ودور مكتباته في النهضة العلمية والأدبية الحديثة» على جائزة أفضل كتاب عام 1428، واختيار فضيلته عام 1432 الشخصية السعودية الثقافية في المهرجان الوطني للتراث والثقافة وتقليده وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى، وحصوله عام 1435 على جائزة الملك فيصل العالمية فرع «الدراسات الإسلامية» والتي كان موضوعها «التراث الحضاري في مكة المكرمة». وما ذلك إلا بعض عَاجِلُ بُشْرَى المُؤْمِنِ، وما في الآخرة خير وأبقى. حبُّ فضيلة الشيخ الدكتور لمكة المكرمة لا نظير له، فقد تغلغل في فؤاده «فباديه مع الخافي يسير» وكأني به يقول كما الهذلي: شققت القلب ثم ذررت فيه هواك فليم فالتأم الفطورُ ومن أبرز الأمثلة على ذلك الحب الذي يتجاوز مجرد العاطفة إلى الإيمان، ما أبداه في الاجتماع الذي دعا إليه سمو الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد عام 1423 بمناسبة اختيار مكة المكرمة عاصمة للثقافة الإسلامية، حيث عتب فضيلته وبشدَّة وبحماسه اللانظير له لمكة، أن تكون معظم المشروعات المقترحة لمناسبة مكة المكرمة عاصمة للثقافة الإسلامية، خارج مكة المكرمة، وأن مكة وهي المقصودة ستخرج بدون المأمول رغم حاجتها لمشروعات ثقافية، وضرب مثلا بحاجة مكتبة مكة المكرمة التي كان لخدمتها متطوعا دؤوبا، إلى مزيد من الدَّعم، ثم قدَّم مقترحات ولا أجمل لمكة المكرمة وتاريخها وتراثها، تم تضمينها في محضر الاجتماع. كان اهتمامه بتراث مكة المكرمة وآثارها والحفاظ عليها، يعتمد على أسسٍ فقهية متينة، كما يعتمد على وثائق من غير ما اعتيد عليه من العلماء كالخرائط والصور كما في وضع رأيه المبهر حول توسعة المسعى. وأذكر أنه قال في محفلٍ ينافح فيه عن ذلك التراث «إنَّ كبار مؤرِّخي مكة المكرمة كانوا فقهاء قبل أن يكونوا مؤرِّخين». ولعله لم يمر على مكة المكرمة مؤرِّخٌ فقيه منذ الأزرقي والفاكهي كابنها البار فضيلة العلامة الشيخ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان الذي منَّ الله عليه بصدق النية والإخلاص في العمل. وكتبه وجهوده في تحقيق وتوثيق ذلك التراث أكثر من تحصر هنا، وممَّا يذكر وفاؤه منقطع النظير لكل من يخدم ذلك التراث ومن أبرزهم الشيخ الفقيه حسن مشَّاط والشيخ الخطاط الآثاري محمد طاهر الكردي رحمهما الله. كوَّن فضيلة الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان عبر مراحل حياته مكتبةً غنيَّة بمختاراتٍ من أمَّهات الكتب ضمَّت بعض نوادرها. وانطلاقًا من وصيته فقد تبرَّع أبناؤه وبناته بمكتبته الخاصة إلى مؤسسة المداد الخيرية للتراث والثقافة والفنون بجدة، وذلك مساهمةً في نشر المعرفة، وإحياءً لإرثه العلمي الفريد والمميز. وتمَّ تدشين المكتبة مساء الخميس 23 ذو الحجة 1446هـ، في مناسبة شهدت جلسات ثقافية وحضورًا لمجموعة من ذوي العلم والفضل. وأحسب أن المكتبة بما تحتويه وبمن تتشرَّف بالانتساب إليه ستكون أيقونة ما تقدمه المؤسسة خدمة للتراث الإسلامي، وسيكون على المؤسَّسة، وهي قادرة جديرة، الكثير مما تقوم عليه لهذه المكتبة، وأرجو أن يكون منها إصدار مجموعة الأعمال الكاملة لفضيلته رحمه الله، وإطلاق جائزةٍ باسمه معنيَّةٍ بالفقه وتاريخ مكة المكرَّمة. لتكون ملمًّا بكل ما لمكة المكرمة تحتاج أن تكون فقيهًا مؤرِّخًا ومحدِّثًا وعالم اجتماع وخبيرًا بالصور، و.. و... يكاد ذلك أن يكون مستحيلا، ولكنه تحقَّق في عبد الوهاب أبو سليمان، فكان كل أولئك. كان أمَّةً في رجل.. عليه رضوان الله. وهنا ختامًا، تشطيري لبيتين من الأبيات التي جاد بها فضيلته في كلمته بمناسبة حصوله على جائزة الملك فيصل العالمية في مجال الدراسات الإسلامية: (تخيّرْتَ لـي أمَّ القُـرى موْطِـناً به) (أقمْتُ.. ومــا فارقْتُه عن تعَمُّدِ) غرستُ به نفسي، وفي ظلِّ فيئه كما كان فيها الفضل بالحسن مُبتدي (وإني لأَرْجُو حُسنَ خاتِمتي بِها) (يكون ُبها قبْرِي كما كان موْلِدي) لعل إله العرشِ.. يكمل فضلَـه وكان له ما تمنَّى، رحمه الله ورحمنا.