فيلم «إسعاف» ..

إتقان يفتقر إلى قصة متماسكة .

حين تخرج من قاعة السينما بعد مشاهدة فيلم “إسعاف”، قد لا تجد صعوبة في تذكّر جمالياته البصرية أو خفة الإخراج وتناسق الإيقاع. العمل من حيث الشكل مصقول، ومن حيث الأداء التمثيلي يضم لحظات متقنة، وبعض المواقف الكوميدية التي تثير الضحك بعفوية. إلا أن الانطباع العام لا يكتمل بالرضا؛ ثمة شعور بأن شيئًا ما كان ناقصًا، وأن القصة – رغم انطلاقها من فكرة قابلة للتوظيف دراميًا – لم تكن على مستوى العناصر الأخرى. الفيلم، من إخراج كولين تيج، وبطولة إبراهيم الحجاج، محمد القحطاني، وفيصل الدوخي، ينتمي إلى فئة الأكشن الكوميدي، ويُعرض كأول عمل عربي على شاشات IMAX، في إنجاز إنتاجي يحسب لصنّاعه. إلا أن البريق الخارجي سرعان ما يصبح أقل وهجًا، حين يُسأل المشاهد: “عن ماذا كان هذا الفيلم تحديدًا؟” دون مندوحة، ما يلفت الانتباه منذ المشهد الأول هو الجهد المبذول على مستوى الإخراج والتصوير. حركة الكاميرا سلسة، زوايا الالتقاط ذكية، والإضاءة مدروسة بدقة تساهم في دعم الحالة الشعورية للمَشاهد. هناك استخدام بارع للتقطيع الزمني والانتقالات، والموسيقى التصويرية تواكب الإيقاع الكوميدي بشكل متناسق. لكنّ هذا الإبهار البصري لا يكفي وحده، لأنه يظل خاضعًا للنص، والنص هنا يعاني من إشكالية تتعلق بضعف الفكرة. القصة، ببساطة، لا تمتلك ذلك الثقل أو الخصوصية أو حتى المفاجأة. تدور حول مسعفين يعثران على مبلغ ضخم بالصدفة، ليجدا نفسيهما متورطين في قضية خطف وفدية. من حيث المبدأ، يمكن اعتبار الفكرة أرضًا خصبة لطرح الكوميديا السوداء، أو لفتح باب التأمل في مهنة المسعف وتعقيداتها الأخلاقية، لكن السيناريو اختار أن يبقى سطحيًا، متذبذبًا بين المزاح والجد دون أن يرسو على ضفة فكرية واضحة. من غير المنصف إنكار أن هناك لقطات كثيرة مضحكة، وربما تكفي لمُشاهدة مسائية خفيفة. مشاهد مثل النقاشات العشوائية بين البطلين، أو بعض التورط العبثي في مواقف غير منطقية، جاءت طازجة وخفيفة الظل. لكن في المقابل، ظهرت مشاهد كثيرة (over) على مستوى الأداء والإيقاع الكوميدي، حيث المبالغة لا تصنع بالضرورة الضحك، بل قد تصنع النفور أو الملل. ومن أبرز تلك اللحظات، المشهد الذي يذهب فيه إبراهيم الحجاج مع الفتاة إلى مكان شبيه بالورشة لمقايضة المال، حيث تتصاعد الانفعالات بشكل مبالغ فيه، هنا ثقل مشهدي بالكاد يتحرك، وتغيب التوازنات الحوارية، حتى أن المشهد بدا أقرب إلى عرض مسرحي مرتجل منه إلى لقطة سينمائية. الكوميديا هنا تفقد زخمها لأنها لم تُبْنَ على إيقاع داخلي، بل على صراخ خارجي. هذا التفاوت في جودة اللحظات الكوميدية يكشف عن غياب هوية ناضجة للفيلم، وكأن العمل لم يُحسم أمره: هل هو تهريج شعبي؟ أم مغامرة هزلية ذات طابع ساخر؟ أم دراما خفيفة بطابع الأكشن؟ في خضمّ هذا التردد، اختلطت النكات الذكية بلحظات مرتجلة، وغابت الفكاهة حين أُفرط في صناعتها. إبراهيم الحجاج، النجم الذي صار اسمه مألوفًا في المشهد الكوميدي السعودي، يمتلك كاريزما يصعب إنكارها. لكنه في هذا الفيلم بدا وكأنه يُمثّل بشخصيته لا بشخصية الدور. كانت هناك مبالغات واضحة، وإفراط في استخدام تعبيرات الوجه، وصوت مرتفع أحيانًا بشكل لا يتناسب مع اللحظة الدرامية. الحجاج لم يكن سيئًا بقدر ما كان مستهلكًا لنفسه، مكرّرًا أسلوبه المعروف دون تجديد يُذكر. أما محمد القحطاني، فرغم حضوره الهادئ، فقد جاء تمثيله نمطيًا، عنصر ثبات، وكأنك تستطيع التنبؤ بجمله وانفعالاته قبل أن ينطق بها. شخصيته بدت خجولة، ليس بسبب ما تتطلبه الشخصية، بل بسبب الأداء الذي لم يضف شيئًا جديدًا إلى السيناريو. وسط هذا التفاوت، يبرز فيصل الدوخي كأفضل أداء تمثيلي في الفيلم. كان متماسكًا، متزنًا، وقادرًا على تقديم شخصية مركبة دون أن يضيع في زحام المبالغة. عرف كيف يُعبّر بلغة الجسد أكثر مما يعبّر بكلامه، حيث يتبع المسعفين اللذين معهما الشنطة بطريقة تشويقية، وهو ما يحتاجه أي فيلم قائم على الإيقاع السريع والمواقف المتتابعة. ويكفي أن نتأمل أحد المشاهد التي ظهر فيها مستلقيًا على الأرض بعد مواجهة محتدمة، حيث لم يحتاج لأكثر من نظرة ساكنة وجسدٍ منهك ليُوصل كل ما يجب أن يُقال عن الألم، والخسارة، والانكسار. في لحظة مثل تلك، كان الصمت أبلغ من أي سطر حوار، وكان حضوره قادراً على جعل الكاميرا تستقر. يبدو أن بعض التجارب السينمائية السعودية لا تزال تُراهن على الكوميديا كطوق نجاة لضمان استقطاب الجمهور، خصوصًا في ظل ثقافة سينمائية ما زالت في طور التكوين. فيلم “إسعاف” أحد هذه الأمثلة: عمل أُسّس على مزاج جماهيري لا يكره التهريج، لكنّه لا يطلبه دومًا. والسؤال هنا: هل السينما المحلية مستعدة للمغامرة بفيلم جادّ، أو بنص ذكي يُضحك دون أن “يُهرّج”؟ هل يمكن أن تكتب الكوميديا من عمق الواقع دون أن تتحول إلى سلسلة قفشات لفظية مبالغ فيها؟ إسعاف لا يُجيب، بل يُعيد طرح هذا السؤال المؤجل. في المجمل، “إسعاف” فيلم يستحق المشاهدة من زاوية التطور التقني والإنتاجي، ومن جهة استمتاع بصري لا خلاف عليه. لكنه، كمنتج سينمائي يُفترض أن يحمل متعة بدون ترهل، يترك المشاهد في حيرة: لماذا لم يكن النص على مستوى الصورة؟ ربما يكون إسعاف خطوة على طريق سينما تبحث عن ذاتها، لكن لا بد أن نتذكّر دائمًا أن القصة هي الأساس. هي التي تُحرّك الكاميرا، وتُوَجّه الممثل، وتُبرّر الموسيقى، وتمنح الجمهور سببًا للبقاء حتى آخر لقطة. وكل ما عداها — مهما بدا جميلًا — لا يستطيع أن يسعف الفيلم حين تسقط حكايته.