شاعر يعالج القضايا بالكتابة الساخرة ..

زكي السالم : أربعون عاماً من الشعر جعلتني أؤمن بكل التجارب.

حين يأتي الشعر من قلب الريف، لا يكون مجرّد استجابة لجمال الطبيعة، بل يُولد من تماسٍ حيّ مع تفاصيل الحياة اليومية، من ذاكرة مشبعة بالحكايات، ومن بيئة تتوارث الصور كما تتوارث الأنفاس. في قرية “بني معن” بالأحساء، نشأت تجربة زكي السالم، محمّلة بعناصر المكان وروح الجماعة، لا لتصوغ لغتها كزخرف، بل لتطرح أسئلتها حول الإيقاع والمعنى والهوية. في هذا الحوار، نقترب من تجربة امتدت لأربعة عقود، تداخل فيها الشعر بالنقد، والتجربة الفردية بالمشهد الثقافي العام. حديث لا ينحصر في ما كُتب فقط، بل في ما وُوجه به من تحولات، وفي الطريقة التي يرى بها السالم الكتابة بوصفها حالة مستمرة من التفاعل والتأمل. بين تعلقه بالإيقاع، وموقفه من القصيدة الحديثة، وبين صوته في “حديث الثلاثاء”، واهتمامه بالسخرية كوسيلة للاقتراب من الواقع، يكشف الحوار عن رؤية متزنة لا تنجرف مع التيارات، لكنها لا تنغلق دونها. إنه حوار مع شاعر يكتب من موقع المراقب والمشارك، حيث تبقى القصيدة فعلاً حيًّا لا تزينه البلاغة بقدر ما يبرره الصدق، وتبقى الكتابة سؤالًا مفتوحًا أكثر من كونها إجابة نهائية. • القرى تنجب شعراء لهم ذاكرة محتشدة بالصور والمرويات، إلى أيّ مدى أثّرت “قرية بني معن” في تشكل تجربتك الشعرية؟ تأثير القرية كبير ومتجذر في شخصيتي الإنسانية والأدبية .. فحين تولد في قرية كقريتي ( بني معن ) الضاربة بجذورها في عمق التراث ، والماضي البعيد ، والمخزونة بكم هائل من الذاكرة الشفهية لماضٍ شفيف احتضنته ذاكرة شبابها وشيوخها. لا شك أنها تفتح لك أبوابًا لرفد موهبتك الإبداعية بكل ما تحمله من طيبة ، ومن قرب وحنو أهلها ، واشتباك علاقتهم ببعض إلى حد الامتزاج. اختصارًا ( بني معن ) مشبعة بكل جمال الريف وروعته وأناقته . الأمر الذي كان له الأثر الأكبر في تشكل تجربتي في خطواتها الأولى وما زالت. • كيف اختلفت رؤيتك للشعر منذ بداياتك في الثمانينات وصولا إلى اليوم؟ 40 سنة عمر تجربتي الشعرية حملت الكثير الكثير ، وفتحت لي أبوابًا ، وشرّعت لي نوافذ أطل من خلالها على كل ما هو جديد ، ومتطور في عالم الأدب. ففي البدايات كان اهتمامنا منصبًا على عمود الشعر لا نبغي له بدلاً ، وسرنا في مجاورة مع الشعر في تطوره واتساع أفقه. رؤيتي طبعًا اتسعت بشكل كبير للشعر مع هذا العمر ؛ كنتُ ضيق الأفق ، وحديّ النظرة ؛ فلا أقبل أي قالب يخالف العمود الشعري ، الآن أتقبل كل التجارب الإبداعية ، عمودها ، وتفعيلاتها، ونثرها. قد اختلف مع بعضها ، لكن أتقبلها كلها. • هل هناك حالات إلهام خاصة تحضر بحضورها القصيدة؟ أم أن الشعر عندك فعل يومي لا يستوجب لحظة استثنائية؟ ليس هناك حالة خاصة، أو طقوس معينة. لكني خاضع تمامًا لإلحاح الحالة الشعرية ، فإن ألحت استجبت لها بأي حالة أكونها. • في عصر الإنترنت، وسرعة تناقل المعلومات، هل تغيّر الجمهور أم تغيّرت مرايا الشاعر؟ — ربما لم يتغير الجمهور تغيّرًا جذريا، ولكن اتسعت رقعته ، وعرضت جغرافيته؛ فسابقًا كان انتشار القصيدة محدودًا في دائرة ضيقة قد لا تتجاوز المحلية. لكنها اليوم وصلت لجمهور العربية في كل رقعة من العالم. فقطعًا باختلاف الجغرافيا ستختلف المرايا وربما تتعدد. • هل جربت أن تترك الوزن وراءك لتختبر خفة المعنى؟ — لا. أنا شاعر إيقاعي حتى النخاع. فالإيقاع سواءً في قصيدة الشطرين أو قصيدة التفعيلة هو ركيزة أساسية عندي. ولم أجرب ( قصيدة النثر ) لإيماني العميق أن 90 في المئة ممن يدعي كتابتها لا يفقهها ولا يجيدها. وأخشى إن حاولتُ أن أكون رقما في هذا الـ 90 في المئة. • عبر “حديث الثلاثاء”، هل أصبحت الكتابة لديك أكثر ارتباطًا باللحظة أو تفاعل الجمهور عبر مواقع التواصل؟ لا أهتم كثيرًا بما ( يطلبه الجمهور ) ؛ ولو كنتُ كذلك لما وُلد ( حديث الثلاثاء ) ؛ فهو برنامج يلقي الضوء مشعًّا على سلبيات مشهدنا الأدبي والشعري بالذات ، وليس مرتبطًا باللحظة تمامًا وإنما بالحدث وضرورته وإلحاحه. • في بيئة غنية بالشعر الشفاهي، هل يحتاج الشاعر إلى نبرة مغايرة ليُقرأ؟ قد لا تكون الحاجة ملحّة ، لكن حين يلقى الشعر شفاهية فقطعًا سنحتاج لهذه النبرة الرقيقة الرخيمة التي تشكل جمالًا يضاف لجمال النص. • بين التراث والحداثة، هل ترى أن الشاعر السعودي معنيٌّ بالمصالحة أم بالقطيعة؟ الشاعر السعودي كأترابه من شعراء العربية ، لا بد أن يكون في علاقة ممتدة ومتينة بالتراث والحداثة معًا ، فالثانية من دون الاتكاء على الأولى ستمشي عرجاء مترنحة. وشاعرٌ بلا جذور سيسقط مع أول أرق هبّة ريح. • التحوّل لكتابة الأدب الساخر، هل هو تعبير عن نضج التجربة أم تمرّد على التصنيف؟ تجربتي مع الأدب الساخر دافعُها أمران : شخصيتي التي تميل لجرعات من الكوميديا في معالجة كثير من الأمور الحياتية ، ويقيني أن كثيرًا من الكتابة عسرة الهضم على المتلقي ، فالسخرية هنا تجعله أكثر تقبلًا لها ، وتساعده على هضمها والتفاعل معها بشكل أسرع وأليق. ولا أميل أن مبعثها نضج التجربة وإنما هي موهبة عند البعض ، لا تجدها عند البعض الآخر. • هل ما زال للكتابة الساخرة دور في نقد ومعالجة مشاكل المجتمعات؟ قطعًا. وإن قلّ كاتبوها ومبدعوها. • بوصفك شاعرًا وناقدًا للمشهد الثقافي، ما الذي ينقص حركة الشعر العربي اليوم؟ تنقصه الرؤية العميقة ، ونضج التجربة ، والتركيز بقوة على رفد ودعم هذه التجربة. فمع انتشار وسهولة النشر أصبح النشر هدف الكثير من الأدباء ، في غياب أو قلة تنمية ورعاية هذه الموهبة ؛ فكم من شاعر لدينا موهوب حد الدهشة ، ترنحت موهبته بسبب لهثه وراء النشر والترند. • من خلال مشاركاتك في أمسيات شعرية في بلدان عربية متعدّدة، كيف يتغير وقع القصيدة بين جمهور وآخر؟ وهل تأثّرت كتاباتك لاحقًا بهذه التجارب المتنوّعة؟ الجمهور العربي عمومًا رؤيته واهتمامه وتفاعله وذوقه موحد تقريبًا، إلا أن الاحتكاك به ؛ بمتذوقيه ومبدعيه لا شك أنه رافد قوي لكل تجربة شعرية. شخصيًا لمست ذلك بنفسي ، وتأثرت إيجابًا بمشاركاتي في أمسيات في طول الوطن العربي وعرضه. • منذ آخر “نبض” في عام ٢٠٢٢، هل هي هدأة كتابة، أم صمت عن النشر؟ تحدثت في أكثر من حلقة في حديث الثلاثاء عن ضرورة المزج بين التأني في النشر ، والإسراع المنفلت فيه ، وقلتُ : يجب على كل شاعر ألا يُتخم بالنشر ، وألا يعيش حالة قحط معه ، وإنما أمر بينهما. وأنا ملتزم بهذا المزج بين الحالتين.