مقهى الشابندر ..

ذاكرة بغداد المتقدة برائحة الكتب .

في قلب بغداد القديمة حيث تنبعث رائحة الحبر والكتب من قلب شارع المتنبي، ينحني الزمن احتراقا لذكريات لا تنسى، يقف مقهى الشابندر شاهقا بهدوئه كأنه حارس أمين لذاكرة مدينة انهكتها التحولات. هنا في زقاق المتنبي العتيق لا تكتفي الجدران بسرد الحكايات بل تشارك فيها بين فناجين قهوة معتقه بنكهة الماضي واحاديث المثقفين لاتنتهي . يصبح مقهى الشابندر أكثر من مجرد مقهى، إنه صالون ثقافي ومتحف حي ومنبر للتأمل في تاريخ العراق الحديث. منذ افتتاحها قبل أكثر من قرن ظلت الشابندر شاهدا على تحولات كبرى من عصور الازدهار إلى أيام الحروب والحزن، ومع ذلك بقي المكان وفيا لرسالته في احتضان الكلمة واستضافة الفكر وتكريم الذاكرة. في هذا التحقيق نفتح أبواب مقهى الشابندر لنتعرف على أسراره ورواده وتحولاته، ونحاول أن نفهم كيف يمكن لمكان أن يحمل في طياته روح أمة بأكملها. تاريخ المقهى التقيت بصاحب المقهى الحاج محمد الخشالي وهو رجلٌ في جعبته خزين من الذكريات الحلوة والمرة. سألته عن تاريخ إنشاء هذا المقهى؟ قال : تأسس مقهى الشابندر في عام ١٩١٧ في شارع المتنبي الشهير وسط بغداد على يد محمد الشابندر أحد الشخصيات التجارية البارزة في ذلك الوقت والذي كان يملك مطبعة ومكتبة مجاورة للمقهى، وقد اتخذ المقهى اسمه من عائلة الشابندر ذات الجذور التجارية والثقافية، والتي لعبت دورا مهما في الحياة المدنية في العراق. تعد هذه المقهى من أقدم مقاهي بغداد بموقعها الجغرافي المجاور لمقرات الحكومة العراقية. وعند تشكيل الحكومة العراقية وتنصيب الملك فيصل الأول تشكلت الوزارات فكان رواد هذه المقهى من كبار موظفي الحكومة كونها مقابلا لمقراتهم، وإضافة إلى مختاري بغداد والمراجعين لمقرات الحكومة إضافة إلى الفنانين والأدباء. وأكد صاحب مقهى الشابندر: يعد مقهانا أحد المرافق السياحية والتراثية في بغداد والعراق. --- وسألته عن الصور المعلقة على جدران المقهى، حيث بدت وكأنها أشبه بمعرض للصور. قال: هذه الصور التي تراها هي صور لكبار المسؤولين من وزراء وشعراء وشاعرات وفنانين ومثقفين معروفين ورياضيين زاروا المقهى، واعتزازاً من المقهى بهم التقطت صور لهم وعلقت على جدار المقهى من رواد المقهى ثم تحدث صاحب مقهى الشابندر عن رواد المقهى وقال: من رواد هذا المقهى المعروفين مئات من المثقفين والسياسيين والكتاب منهم من اتخذ مقر دائما له، ومنهم من مر بها فترك أثرا في روحه ووجدانه ومن أبرز هذه الأسماء التي ارتادت المقهى: الجواهري شاعر العراق الشهير الذي كان يزور الشابندر في فترات متقطعة. ومن روادها مصطفى جواد اللغوي المعروف كان يناقش قضايا اللغة والتاريخ مع جلاسه. ومن رواد المقهى أيضاً الشاعر بدر شاكر السياب أحد رواد الشعر الحر الذي ترك بصماته في زوايا المقهى وأزقة شارع المتنبي، وكذلك جبرا إبراهيم جبرا، ونازك الملائكة والعديد من الشعراء البارزين من رموز الأدب الحديث، والعديد من مثقفي العراق من صحافيين ومفكرين وأكادميين يتخذون مقهى الشابندر محطة دائمة في زياراتهم الثقافية لبغداد . ثم قال صاحب المقهى الخشالي: منذ بداياته لم يكن الشابندر مجرد مكان لاحتساء الشاي والقهوة بل أصبح مجلسا للأدباء والمثقفين والصحافيين والكتاب لتبادل الآراء ومناقشة قضايا الأدب والسياسة والثقافة، وكانت جدرانها تشهد على حوارات عميقة وصراعات فكرية، وذاكرة تحتفظ بأسماء لامعة خطت مجدها في تاريخ الثقافي العراقي . مقهى الشابندر والاعتداء الإرهابي قال صاحب المقهى الحاج الخشالي: تعرض المقهى الى اعتداء ( تفجير ) إرهابي في مارس عام ٢٠٠٥ نجم عنه تدمير شارع المتنبي والمقهى بشكل كامل وسقوط أعداد كثيرة من الشهداء والجرحى ، وكان من بين الشهداء أربعة من أولادي وخامسهم حفيدي، وعند سماع زوجتي ما حدث لأولادها وحفيدها فارقت الحياة.. وبعدها سارعت الحكومة بإعمار الشارع والمقهى بشكل أجمل مما كان عليه. ماذا قالوا عن المقهى بعدها سألت أحد رواد المقهى عن ماهية المقهى بالنسبة له؟ -- أجاب قائلا: تعد المقهى بالنسبة لي منتدى ثقافي نتبادل فيه الأفكار الأدبية والثقافية، وتصقل مواهبنا في مجالات شتى. وقال الأديب مثنى أحمد: إن مقهى الشابندر يغرس فينا أبجديات الحوار الهادف لما يخدم المثقف العراقي. ---وشاركنا أطراف الحديث الفنان التشكيلي رائد أمجد وقال إن مقهى الشابندر يلتقي فيه كل الأدباء والمثقفين ويكون موعدنا كل يوم جمعة. وقال الروائي نائل النائلي عن المقهى: المقهى محطة استراحة للفنان أو المثقف أو الأديب، وهو لحظة استرخاء تمنح الهروب عن الذات وما يحيط بنا من ضغوط نفسية واجتماعية وسياسية. وأخيرا يبقى مقهى الشابندر ليس مقهى فحسب؛ بل روحا تتسلل إلى وجدان بغداد كما تتسلل رائحة الشاي والقهوة ورائحة شارع المتنبي من الورق المعتق بين رفوف الكتب في الشارع ذاته، هي ذاكرة لاتشيخ، وموطئ حلم الباحثين عن معنى وسط صخب المدينة. في كل زاوية منه حكاية، وفي كل فنجان قهوة رواية لم تكتب. مقهى الشابندر لا يغلق أبوابه أمام الزبائن بل يحتضن الزمن ويمنحه مكانا ليجلس بهدوء ويكتب مذكراته على طاولة من خشب وتاريخ حافل بالمجد . * العراق