
تتناول مجموعة (دم الغزلان) القصية للأديب ناصر الجاسم الصادرة عن نادي القصيم الأدبي ودار المفردات للنشر سردية عجائبية بسحرية واقعية حاول الجاسم فيها أن يكتب قصصه بطريقة تجذب القارئ النخبوي للتأمل وحضور العنصر التشويقي للقارئ المحب والباحث عن جانب من إثارة الحواس والمتعة الذهنية، وكما أن كتاباته تعتبر مغامرة في فتح أساطير محافظة عريقة مثل الأحساء بثقافتها الشعبية وتاريخها وامتدادها، وما تختزنه من حكايات أنتجها مخيال شعبي عريق بماضيه وتراثه وحاضره وموروثه الحكائي الذي أثمر مع كل بذرة غرسها فلاح حتى أثمرت تمورًا من سرديتها الشعبية وعاش ابناؤها على حكاية الجدات وغذتها المنابر بأساطير وخرافات سيجتها ببعد قداسي، لكن استطاع الجاسم إعادة كتابتها بسردية واعية استخدمها للولوج إلى أعماق شخصياته المستمدة من المجتمع وقراءة موروثه سرديًا. يشتغل الجاسم في مشروعه السردي على الموروث الأحسائي بقدر كبير في مناطق حساسة لم يقترب كتاب السرد في الأحساء منها، إما خوفًا من التصادم المجتمعي أو لصعوبته. كشفت سردية الجاسم عن جانب مهم في تعامل الأجداد مع بيئة الاحساء الثقافية والدينية والاجتماعية،.فهناك الكثير من الموروثات لا يوجد لها تفسير منطقي لكن جاءت كجانب روحـي ولتقدم إجابــــة مقنعــــــة للمجتمع . تأتي أهمية قصصه كرؤية ميثلوجية وانثربيلوجية تحفظ هوية وثقافة الأحساء الشعبية بقدرة إبداعية لدى الكاتب وامتلاكه لتقنيات القصة القصيرة لاستحضار الحكايات الشعبية والأساطير التي تربط الإنسان الأحسائي بموروثه. لذا تعتبر محاولة الكتابة عن قصص ناصر الجاسم مغامرة في الغوص داخل أعماق نصوص مشبعة بعمق سردي ناضج، وأفكار مستمدة من الموروث وصور أسطورية للمجتمع، وكما أن الكتابة عن الجاسم مغامرة ، أيضًا كتابات الجاسم عن الموروث الأحسائي تعتبر مغامرة مماثلة. القصة الأولى في المجموعة جاءت بعنوان (ابن الماء) وهي محاولة لتجسيد المدينة على شكل بشري يتمثل في الشاب (حسا ) فلو تجسدت الأحساء في صورة بشرية لن تكون إلا (حسا ) بطل القصة ( حسا شاب جميل والجمال الذي في وجهه أنثى والجمال الذي في جسده جمال ذكر) (وكانت اثداء النسوة تأتيه كل صباح ومساء حتى اكتمل نموه وقد أحبه الفلاحون وتعهدوه بالإطعام ) العلاقة بين الأرض وأهلها أنقذ حسا وكثيرين من الغرق. جمع الكاتب في قصة (تغريدة خمري) كل المشاعر البشرية بكل تناقضاتها من الحب والخيانة والغدر والفراق والتوديع وشعور الضحية والاستبداد والحاجة التي تجعل الإنسان يبيع أغلى ما يملك ويصورها من خلال قفص يعيش فيه طائران ولحظة بيعهما في أحد الأسواق الشعبية بالأحساء، كما تناول الجاسم في مجموعته بعض ما يمثل جزءاً من التراث و الخرافة والحكايات الشعبية في الأحساء، من خلال الحديث عن حياة الإنسان الاحسائي البسط في النخيل والقرى، التي قد تكون مغيبة لدى كثير من الجيل الجديد لأبناء المحافظة، خصوصًا ما يتعلق بالعادات والأعراف وبعض المسلكيات الحياتية، والخصوصية الثقافية كتقديم القرابين من فئة اجتماعية كما في قصة (وطأة علي)، وما يدور فيها من طقوس اجتماعية موروثة لها دلالات اعتقادية، وبامتداد علاقاتها في المجتمعات التي تتشابه في بيئتها الاجتماعية، وقد تكون انتقلت منها مثل( كربلاء والنجف) للارتباط الثقافي بين شريحة من المجتمع الاحسائي والمجتمع الكربلائي والنجفي في الموروث الديني . تناولت المجموعة أيضًا السحر والخرافات في المجتمع الأحسائي مثل قصة (جذع يطير)، حيث تراث الأحساء مملوء بمثل هذه الخرافات، بل أن ممارسة هذه الأعمال لم تكن وليدة في تراث الاحساء، بل برزت لاعتقاد الإنسان في المجتمعات العربية بالحاجة لها من أجل التغلب على مشاكل الحياة ومواجهتها. أيضا تناولت المجموعة السحر على أنه الوسيلة التي كان يراها الإنسان البسيط في ثقافته لتحقيق أمنياته بالخير أو الشر، لما لها من طاقة وقدرة على صناعة الأمل وتحقيق رغباته وأمنياته المدفونة كما في قصة ( دم الغزلان)،وطريقة التعامل معها كظواهر ومعتقدات لها تأثيرها الثقافي على المجتمع . ولأن الخرافة تمثل جانباً مهماً من حياة وتراث الاحساء، اذ كانوا بحاجةٍ ماسة الى تفسيرات منطقية للظواهر المحيطة وقصص الجن وتحولها إلى بشر أو حيوانات مرعبة وغيرها الكثير في بيئة زراعية اشتملت على كل ذلك قصص المجموعة ومنها قصة (أبو القطاوة).فلا يكاد يخلو تراث الأحسائيين الذي تحتفظ به ذاكرة الناس الشفاهية المتوارثة من مثل هذه الخرافات. اذا كان علم الأساطيرأو ” الميثيولوجيا” درس الخرافة بشكلٍ علمي، ليكتشف حقيقتها وتبريراتها الاجتماعية والنفسية نستطيع القول أن قصص الجاسم في مجموعته أعادت إنتاج الخرافة في التراث الأحسائي بطريقة سردية قصصية واكتشف جمالياتها، ولا يتناول الجاسم الخرافة والأسطورة والحكاية الشعبية في قصصه كترف سردي، بل كأهمية سردية في توثيق ذاكرة الماضي لتراث الاحساء، فبالإضافة الى تفسيره سرديًا للحكايا التي تداولها الناس آنذاك ، فهو يوفر جانب من المتعة الروحية والذهنية والمعالجة الفكرية قصصيًا. استفاد الجاسم من مخزون الحكايات الشعبية بالأحساء التي تكتنزها ذاكرة المجتمع كفنٍّ سردي شفاهي قديم، يُحكى في المجالس، ويبرز الوعي المجتمعي والمفاهيم الثقافية له، وهذا النوع من الحكايات الذي تتناقله الأجيال أعاد الجاسم توظيفه في قالب سردي جديد، كما في قصة (السور) ليتبين أن لدى الكاتب قدرة للغوص في المخيال الشعبي المتصل بعوالم السحر والغيييات، لأن الحكاية الشعبية في قصص الجاسم لها ثيمة بارزة يُعاد توظيفها في الكتابة السردية الحديثة. ويبني قصصه على مرجعية ثقافية وفكرية وتاريخية ليعيد تشكيلها بقوالب سردية معاصرة. وتنطلق كتاباته من المرويات الشفاهية الشعبية، وخاصة تلك التي تدور حول عوالم السحر والغيبيات، ليعيد صياغتها بأساليب سردية حديثة تُبرز البعد الأنثروبولوجي وتستحضر الذاكرة الجمعية بوصفها مادة أدبية قابلة للتحول الأدبي، وتتميز قصصه بغنى الحكاية الشعبية بمعناها الأدبي كنصوص قابلة للتشكّل داخل فضاءات السرد الحديث، وتؤسس لذائقة نصية في قراءة الموروث و تفتح أفقا لتأويله، وتقديمه كخطاب يعيد رسم الصور الذهنية داخل المخيال الأدبي للمجتمع الأحسائي القصص السردية عند الجاسم تمثل إنسانية الوعي والثقافة الشعبية للمجتمع الأحسائي ، وهي نصوص إثنوغرافية تستند على تشكيل قيمي ومفاهيمي في اللاوعي المجتمعي.