
رغم سطوة التحول الرقمي وتسارع الإيقاع الثقافي، لا يزال الأدب الأصيل، أو الكلاسيكي كما يسميه البعض، حيًّا في وجدان الكُتّاب المعاصرين، ينبض في نصوصهم، ويمنحهم عمقًا يتجاوز حدود اللحظة. في هذا الاستطلاع الذي أجرته “اليمامة”، تبرز أصوات أكاديمية وأدبية وازنة، تؤكد أن العودة إلى النصوص الكبرى ليست اجترارًا للماضي، بل إعادة تأويل له، وتوظيفه بصيغ معاصرة، مدفوعة بما أتاحته التقنية من وسائط عرض مبتكرة. فمن رقمنة القصائد القديمة، إلى بثها بصريًا عبر “يوتيوب” وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، صار الأدب الكلاسيكي أقرب من أي وقت مضى إلى الأجيال الجديدة، يمنحهم الإلهام، ويعيد تشكيل أسئلتهم، ويوسّع أفق التعبير لديهم. هنا، نقرأ شهادات تؤمن بأن ما يُكتب اليوم ليس إلا امتدادًا لما كُتب بالأمس، بروح العصر، وأدواته، وقلقه أيضًا. جملة من الأسئلة طرحتها “اليمامة”، من قبيل: كيف يستوحي الكُتّاب المعاصرون من الأعمال الأدبية الكلاسيكية في كتاباتهم اليوم؟ وهل ما زال هذا الأدب يحمل قيمة وأهمية في عصرنا الرقمي؟ وما الدور الذي يمكن أن تلعبه التكنولوجيا في إعادة تقديم الأدب الكلاسيكي لجيل جديد من القرّاء؟ الرقمية منحت النص الكلاسيكي حياةً جديدة يرى عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد، نائب رئيس اتحاد كُتّاب الإنترنت العرب، الدكتور عبدالرحمن بن حسن المحسني، أن الكلمة الفَصْل هي تلك التي قال بها علماء التناصّ، إذ يرون أن كل نصٍّ متناصّ، وهذا يعني أن كل نصٍّ معاصر هو صوتٌ واحدٌ من بين الأصوات الشعرية التي اختزنها عقل المبدع وأفرزها في أعماله. وأشار المحسني إلى أن ثنائية “شعر كلاسيكي / شعر معاصر” تفقد جدواها، لأن التداخل بينهما أصبح لا ينفصم، ولا يبقى إلا براعة الشاعر في تجاوز اجترار التجارب السابقة أو إعادة إنتاجها، حتى لو كان الإطار العام تقليديًا. وأضاف أن للرقمية المعاصرة فضلًا كبيرًا على التجربة الشعرية الحديثة. فمنذ اختراع صيغة PDF أصبحت الكتب التراثية في متناول عين الشاعر المعاصر، تؤثر فيه وتغذي مخيلته. ثم جاءت – على حد قوله – الأقراص الصوتية، كإنتاج شركة “صخر” التي قدمت المعلقات والمتنبي بصوتٍ حي، فانتقلت القصيدة من الورق إلى الأذن، وجاء “يوتيوب” ليمنحها بيئةً بصرية تماثل نشأتها الأصلية. لذلك، فإن عودة الشعراء الشباب إلى كتابة القصيدة الكلاسيكية بروحٍ جديدة، مردّه هذه الحركة الرقمية التي جعلت من النص القديم مادة حيّة نابضة في زمن مختلف. الكتابة الحديثة لا تنفصل عن التراكم الكلاسيكي وردًا على سؤال حول ما إذا كان الكُتّاب المعاصرون يستفيدون من الأدب الكلاسيكي، قالت الدكتورة حصة المفرح، عضو هيئة التدريس في جامعة الملك سعود، إن الكُتّاب المعاصرين لا يكتبون من فراغ، بل في ظل تراكم تاريخي أدبي يُعاد توظيفه بأساليب جديدة، تتراوح بين التضمين والتأويل الخفي، وبين إعادة الصياغة والدخول في حوار نقدي مع الموروث، وفق تحولات النص والجمهور ومنصات العرض. يتجلى ذلك في إعادة توظيف البنى السردية كالمقامات، والمنامات، والحكاية داخل الحكاية، أو إحياء الرموز، أو حتى تحويل هذه الأعمال إلى وسائط رقمية مثل المسلسلات والرسوم المتحركة. وحول ما إذا كان الأدب الكلاسيكي لا يزال يحمل قيمة في العصر الرقمي، تؤكد المفرح بالإيجاب، لأنه يعالج أسئلة إنسانية كبرى عابرة للزمان والمكان، ويقاوم تسطيح المعرفة في بعض الاتجاهات ويثريها، مع قابليته للتحويل إلى وسائط رقمية وبصرية، فضلًا عن بلاغته وأسلوبه، وهو أداة تواصل بين الأجيال. أما عن دور التكنولوجيا في تقديم الأدب الكلاسيكي للجيل الجديد، فتقول الدكتورة حصة إنه يتجلى عبر عدد من الحقول المعرفية، من بينها رقمنة المخطوطات والطبعات القديمة، والترجمات التفاعلية، وتوظيف الذكاء الاصطناعي، والبودكاست، ومحتويات التفاعل الشبكي، وإنشاء مجتمعات قرائية رقمية. وتؤكد المفرح تأثرها بالموروث الأدبي العربي، وبدأت بتناول تأثيره في القصة القصيرة في الجزيرة العربية ، ثم في دراسة العتبات بوصفها نصوصًا حضرت في ذلك الموروث إضافة إلى دراسة التأثير الصوفي العربي على أعمال رجاء عالم، ودراسة المقامات من منظور الحجاج بلغة الجسد؛ فالتأثر -على حد قولها- ليس من منظوره اللغوي فقط، بل بوصفه نظام تفكير، وتأويل وتعبير. الرمزية الكلاسيكية تعزز هوية النص المعاصر من جانبه، يؤكد عضو هيئة التدريس بجامعة الملك عبدالعزيز، الدكتور محمد جبريل الزيلعي، أن الأدب الكلاسيكي برمزيته وجذوره التاريخية يلعب دورًا محوريًا في إلهام الأدب المعاصر، إذ يستلهم الكُتّاب اليوم من موضوعاته وقضاياه المختلفة، كالرواية الواقعية أو القصيدة العمودية وغيرها من الأجناس الأدبية، في البحث عن المعنى وتأكيد الذات. ولذا نجد كثيرًا من المبدعين يُعيد توظيف هذه الكلاسيكية وشكل إنتاجها في سياقات حديثة تعكس قضايا العصر وتحدياته. فبعض الأعمال الأدبية المعاصرة تبني هياكلها السردية أو رموزها على نماذج كلاسيكية تؤسس عليها، وبالتالي تبني بذلك جسراً بين الماضي والحاضر، فتمنح النصوص عمقًا إنسانيًا يلامس وجدان القارئ المعاصر، الذي لا يستطيع الفكاك من سؤال الماضي وسيولة الحاضر. وبحسب الدكتور الزيلعي وهو صاحب دراسات واسعة في الإعلام الرقمي، لا تزال قيمة الأدب الكلاسيكي حاضرة بوضوح في العصر الرقمي، إذ يُمثل هذا الجنس الأدبي مرجعية فكرية وجمالية تُساعد في فهم الذات والآخر، وبالتالي تمنح قارئ اليوم منظورًا أوسع للحياة، عبر تجارب إنسانية مشتركة لا يحدها الزمان أو المكان. كما أن الأدب الكلاسيكي يُرسّخ القيم الأخلاقية والجمالية، ويعزز من الحس النقدي لدى الأجيال الجديدة، باعتباره أدبًا قائمًا على عتبات نصية راسخة في وجدان التاريخ، فلا تزال هناك أعمال كلاسيكية خالدة لم يتجاوزها الزمن ولا من قرأوها. وذهب الدكتور الزيلعي إلى أن التكنولوجيا اليوم أضحت أداة فعالة لإعادة تقديم الأدب الكلاسيكي، من خلال تحويله إلى كتب إلكترونية، أو منصات تفاعلية، أو حتى تجارب غامرة بالوسائط المتعددة، وهذا يسهم في جذب جيل جديد من القرّاء، فيمنح النصوص الكلاسيكية حياة جديدة دون المساس بجوهرها. وهكذا يظل الأدب الكلاسيكي ينبض بالحياة، مُلهِمًا ومتجددًا في كل عصر وزمان. الكلاسيكية مصدر رؤى متجددة رغم زخم الرقمية الكاتب والإعلامي نايف إبراهيم كريري، أكد أنه رغم التطور الهائل في تقنيات الكتابة والنشر، فإن الأدب الكلاسيكي يظل أساسًا متينًا وضروريًا، ليس فقط بوصفه ماضيًا أدبيًا، بل كرافد من روافد الخيال والفكر الإنساني المستمر. هذه النصوص -بحسب كريري- تُقرأ لا كتراث فقط، بل كمصدر إلهام يُعاد منه إنتاج رؤى جديدة، لأنها تناقش قضايا خالدة مثل الحب، والحرية، والموت، والهوية. ويذهب كريري، من وراء حسه الإعلامي والثقافي، إلى أن العصر الرقمي ساعد من خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي في إحياء النصوص القديمة بأساليب تفاعلية، كما في عرض مسرحيات شكسبير ببيئات رقمية. وأضاف كريري أن استلهام الكُتّاب للأدب الكلاسيكي يعمّق فهمهم للإنسان والعالم، ويجعل من النص المعاصر امتدادًا حيًّا لقيم راسخة لا تذبل. دراسة علمية وفي ذات السياق، أظهرت دراسة علمية حديثة نُشرت عام 2023 بعنوان “القصيدة العربية من التلقي الشفاهي إلى الوعي الرقمي: حتمية التنظير وفرضية التطبيق” للباحثة الدكتورة إيمان عصام خلف -كلية دار العلوم، جامعة المنيا - أن العصر الرقمي لم يُقصِ الأدب الكلاسيكي، بل أعاد تقديمه عبر وسائط تفاعلية متعددة، وجعله أكثر قربًا من الجيل الجديد. الدراسة، المنشورة في “مجلة الدراسات الإنسانية والأدبية” (المجلد 28، العدد 4، 2023)، أشارت إلى أن خصائص النصوص الكلاسيكية كالمقامات والرموز والمرويات القديمة تُستعاد اليوم في الكتابة الرقمية الحديثة، ولكن بصياغات تواكب لغة المنصات والتقنيات الجديدة. وخلصت الباحثة إلى أن ما يُكتب في زمن الرقمية ليس قطيعة مع الماضي، بل امتدادٌ معرفي وجمالي يَستثمر إرث الكلاسيكيات في إنتاج رؤى جديدة تتناغم مع أسئلة العصر وتحولاته.